وأيضًا: إن الباري تعالى تمدح بكونه لا يُرى، حيث إن قوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ وقعت في أثناء المدائح فإن ما قبلها مشتمل على المدح والثناء، وقوله بعدها: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ أيضًا مدح وثناء، فيجب أن يكون قوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ مدحا وثناء، وذلك يوجب الركاكة، وهي غير لائقة بكلام اللَّه تعالى وتقدس، وحينئذ نقول: إن كل ما كان عدمه مدحًا ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصا في حق اللَّه تعالى، والنقص على اللَّه تعالى محال، لقوله: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] وقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)﴾ [الشورى: ١١] وقوله ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣)﴾ [الإخلاص: ٣] إلى غير ذلك، فوجب أن يقال: كونه تعالى مرئيًا محال (١).
قالوا: دلت هذه الآية على عدم رؤية اللَّه تعالى على التأبيد في الدنيا والآخرة، وأنه مما يمتنع على اللَّه ﷿، وذلك لما يلي:
الوجه الأول: قال تعالى: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ وكلمة "لن" تفيد النفي على التأبيد، قال الزمخشري:"إنها لتأكيد النفي الذي تعطيه لا، وذلك أن "لا" تنفي المستقبل، تقول: لا أفعل غدًا، فإذا أكدت نفيها قلت: لن أفعل غدًا، والمعنى أن فعله ينافي حالي، كقوله تعالى: ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ [الحج: ٧٣] فقوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] نفي للرؤية فيها يستقبل، و ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ تأكيد وبيان؛ لأن النفي مناف لصفاته.
فإن قلتَ: كيف اتصل الاستدراك في قوله ﴿وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾ بما قبله؟
قلت: اتصل به على معنى: "أن النظر إليَّ محالٌ فلا تطلبه، ولكن عليك بنظر آخر وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم كيف أفعل به وكيف أجعله، دكًّا بسبب طلبك الرؤية؛ لتستعظم
(١) انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار المعتزلي (٤/ ١٥٠) وشرح الأصول الخمسة له أيضًا (ص ٢٣٥ - ٢٣٧) وتفسير الرازي (١٣/ ٩٩) الناشر: دار إحياء التراث العربي بيروت. الطبعة الثالثة ١٤٢٠ هـ.