المطلب الثاني: الرد على شبه المعطلة في استدلالهم بالأدلة الشرعية لنفي رؤية اللَّه تعالى في الدار الآخرة.
[الرد على حجتهم الأولى]
أن الآية الكريمة حجة عليهم، ولا حجة لهم فيها بأي حال من الأحوال، وذلك للأوجه التالية.
الوجه الأول: أن استدلالهم ذلك كذب على اللغة، ودعوى مجردة عن الدليل؛ لأن اللَّه تعالى إنما نفي الإدراك، والإدراك في اللغة معن زائد على النظر والرؤية، وهو معنى الإحاطة ليس هذا المعنى في النظر والرؤية، فالإدراك منفي عن اللَّه تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة، برهان ذلك قول اللَّه ﷿: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١)﴾ [الشعراء: ٦١] وأخبر تعالى أنه رأى بعضهم بعضًا فصحت منهم الرؤية لبني إسرائيل، ونفى اللَّه الإدراك بقول موسى ﵇ لهم: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢] فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم، ولا شك في أن ما نفاه اللَّه تعالى غير الذي أثبته، فالإدراك غير الرؤية، والحجة لقولنا هو قول اللَّه تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣](١).
قال ابن تيمية:"الآية حجة عليهم لا لهم؛ لأن الإدراك إما أن يراد به مطلق الرؤية أو الرؤية المقيدة بالإحاطة، والأول باطل لأنه ليس كل من رأى شيئًا يقال أنه أدركه، كما لا يقال أحاط به، كما سئل ابن عباس ﵄ عن ذلك فقال: ألست ترى السماء؟ قال: بلى، قال: أكلها ترى؟ قال لا".
ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة لا يقال أنه أدركها وإنما يقال أدركها إذا أحاط بها رؤية، ونحن في هذا المقام ليس علينا بيان ذلك وإنما ذكرنا هذا بيانا لسند المنع، بل المستدل بالآية عليه أن يبين أن الإدراك في لغة العرب مرادف للرؤية، وأن كل من رأى شيئًا يقال في لغتهم أنه أدركه، وهذا لا سبيل إليه، كيف وبين لفظ الرؤية ولفظ الإدراك عموم وخصوص أو اشتراك لفظي؟! فقد تقع رؤية بلا إدراك، وقد يقع إدراك بلا رؤية، فإن الإدراك يُستعمل في: إدراك العلم وإدراك القدرة، فقد يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهد: كالأعمى الذي طلب رجلًا هاربًا منه فأدركه ولم يره، وقد قال تعالى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢)﴾ [الشعراء: ٦١ - ٦٢] فنفى موسى الإدراك مع إثبات الترائي، فعلم أنه قد يكون رؤية بلا إدراك، والإدراك هنا هو: إدراك القدرة، أي ملحوقون محاط بنا، وإذا انتفى هذا الإدراك فقد تنتفي إحاطة البصر أيضًا.
(١) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (٣/ ٢ - ٣) الناشر: مكتبة الخانجي القاهرة، بتصرف.