للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد أخبرنا أيضًا أنه قد: "استوى على العرش" فهذه النصوص يصدق بعضها بعضًا، والعقل أيضًا يوافقها، ويدل على أنه سبحانه مباين لمخلوقاته فوق سماواته، وأن وجود موجود لا مباين للعالم ولا محايث له محال في بديهة العقل، فإذا كانت الرؤية مستلزمة لهذه المعاني فهذا حق، وإذا سميتم انتم هذا قولًا بالجهة وقولًا بالتجسيم لم يكن هذا القول نافية لما علم بالشرع والعقل، إذ كان معنى هذا القول -والحال هذه- ليس منتفيًا لا بشرع ولا عقل" (١).

[الرد على الدليل الثاني وهو دليل المقابلة]

قال الرازي: الجواب عنها من وجهين:

الأول: أن ذكر الدلائل لا بد أن يكون مسبوقًا بتعيين محل النزاع، فنقول: محل النزاع: أن الموجود المنزه عن المكان والجهة هل تجوز رؤيته أم لا؟ فإن ادعيتم أن العلم بامتناع رؤيته ضروري (٢) فذلك باطل من وجوه:

الأول: أن البديهي متفق عليه بين العقلاء، وهذا غير متفق عليه فلا يكون بديهيًا.

الثاني: أنا إذا عرضنا على عقولنا رؤية هذا الموجود، بالتفسير الذي لخصناه، وعرضنا على عقولنا: أن الواحد نصف الإثنين لم نجد القضية الأولى في قوة هذه الثانية.

الثالث: أن حكم الوهم والخيال في معرفة اللَّه تعالى: إما أن يكون مقبولًا أو لا يكون مقبولًا، فإن كان مقبولًا لا يمتنع إثبات ذات منزهة عن الكمية والكيفية والجهة، والمعتزلي يسلم أن ذلك باطل، وإن لم يكن مقبولًا لم يكن حكم الوهم بأن ما كان منزهًا عن الجهة، كان غير مرئي واجب القبول؛ لأن الوهم والخيال لمَّا صار كل واحد منها مردود الحكم في بعض الأحكام لم يبق الاعتماد عليها في شيء من المواضع.

وبالجملة: فإن كان حكم الوهم حقا كان الحق مع المجسم، وإن كان مردودًا كان الحق معنا، أما المعتزلي: فإنه يُرَدُّ حكمه في إثبات الجسم والجهة، ويُقبلُ حكمه في مسألة الرؤية، فكان كلامه متناقضًا.

فثبت بما ذكرنا: أن من نفى الرؤية بالوجه الذي ذكرناه لا بد وأن يعول في نفيها على الدليل لا على ادعاء الضرورة (٣).


(١) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (١/ ٢٥٠ - ٢٣٥) بتصرف يسير.
(٢) انظر: الأربعين في أصول الدين للرازي (١/ ٣٠٣).
(٣) انظر: الأربعين في أصول الدين للرازي (١/ ٢٦٧ - ٢٦٨).