ومن أراد أن يناظر مناظرة شرعية بالعقل الصريح فلا يلتزم لفظًا بدعيًا، ولا يخالف دليلًا عقليًا ولا شرعيًا، فإنه يسلك طريق أهل السنة والحديث والأئمة الذين لا يوافقون على إطلاق الإثبات ولا النفي بل يقولون: ما تعنون بقولكم: إن كل مرئي جسم؟
فإن فسروا ذلك: بأن كل مرئي يجب أن يكون قد ركَّبَه مُرَكِّبٌ، أو أن يكون كان متفرقًا فاجتمع، أو أنه يمكن تفريقه، ونحو ذلك، منعوا هم المقدمة الأولى، وقالوا: هذه السموات مرئية مشهودة، ونحن لا نعلم أنها كانت متفرقة مجتمعة، وإذا جاز أن يُرى ما يقبل التفريق فيما لا يقبله أولى بإمكان رؤيته، فاللَّه تعالى أحق بأن تُمكنَ رؤيته من السموات ومن كل قائم بنفسه، فإن المقتضي للرؤية لا يجوز أن يكون أمرًا عدميًا، بل لا يكون إلا وجوديًا، وكلما كان الوجود أكمل كانت الرؤية أجوز.
وإن قالوا:"مرادنا بالجسم المركَّبِ أنه مُركَّبٌ من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة"، نازعوهم في هذا، وقالوا: دعوى كون السموات مركبة من جواهر منفردة، أو من مادة وصورة دعوى ممنوعة أو باطلة، وبيَّنوا فساد قول من يدعي هذا، وقول من يثبت الجوهر الفرد أو يثبت المادة والصورة، وقالوا: إن اللَّه خلق هذا الجسم المشهود هكذا، وإن ركَّبه ركَّبه من أجسام أخرى، وهو سبحانه يخلق الجسم من الجسم، كما يخلق الإنسان من الماء المهين، وقد رب العظام في مواضعها من بدن ابن آدم، وركَّب الكواكب في السماء، فهذا معروف.
وأما أن يقال:"إنه خلق أجزاء لطيفة لا تقبل الانقسام ثم ركب منها العالم"، فهذا لا يُعلمُ بعقل ولا سمع، بل هو باطل؛ لأن كل جزء لا بد أن يتميز منه جانب عن جانب، والأجزاء المتصاغرة كأجزاء الماء تستحيل عند تصغرها، كما يستحيل الماء إلى الهواء، مع أن المستحيل يتميز بعضه عن بعض.
والأدلة العقلية بينت جواز الرؤية وإمكانها، وليست العمدة على دليل الأشعري ومن وافقه في الاستدلال؛ لأن المصحح للرؤية مطلق الوجود.
وإن قالوا:"مرادنا أن المرئي لا بد أن يكون معاينا تجاه الرائي، وما كان كذلك فهو جسم"، ونحو هذا الكلام، قالوا لهم: الصادق المصدوق ﷺ قال: "إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر"، وقال:"هل تضامون في رؤية الشمس صحوة ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فهل تضامون في رؤية القمر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر".
وهذا تشبيه للرؤية، لا للمرئي بالمرئي، وفي لفظ في الصحيح:"إنكم ترون ربكم عيانًا" فإذن قد أخبرنا أنا نراه عيانًا.