سلمنا أنه عند حضور هذه الشرائط في الشاهد يكون الإدراك واجب الحصول، فلم قلتم: أن في حق اللَّه تعالى يجب أن يكون كذلك؟ وتحقيقه هو: أن ذات اللَّه تعالى مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث، والمختلفان في الماهية لا يجب استواؤهما في اللوازم، فلم يلزم من كون الإدراك واجبا في الشاهد عند حضور هذه الشرائط كونه واجبا في الغائب عند حضورها، ومما يدل عليه: أن الإدراك في الشاهد مشروط بشرائط ثمانية، وفي الغائب نقطع بأنه لا يمكن اعتباره، فكذلك لا يمتنع أن يكون الإدراك في الشاهد واجب الحصول، وفي الغائب لا يكون واجبًا" (١).
٢ - أن قولكم: إثبات الرؤية يستلزم إثبات الجسمية، وهذا منتف عن اللَّه تعالى، غير صحيح، فلا يلزم من إثبات الرؤية إثبات الجسمية، ثم إن لفظ الجسم لم يرد في الشرع لا نفيًا ولا إثباتًا.
قال ابن تيمية: "نفاة الرؤية -من الجهمية والمعتزلة وغيرهم- إذا قالوا: إثباتها يستلزم أن يكون اللَّه جسمًا، وذلك مُنتفٍ، وادَّعوا أن العقل دَلَّ على المقدمتين، احتيج حينئذ إلى بيان بطلان المقدمتين، أو إحداهما، فإما أن يبطل نفس التلازم، أو نفي اللازم، أو المقدمتان جميعًا.
وهنا افترقت طرق مثبتة الرؤية: فطائفة نازعت في الأولى، كالأشعري وأمثاله -وهو الذي حكاه الأشعري عن أهل الحديث وأصحاب السنة- وقالوا: لا نسلم أن كل مرئي يجب أن يكون جسمًا.
فقالت النفاة: لأن كل مرئي في جهة، وما كان في جهة فهو جسم. فافترقت نفاة الجسم على قولين: طائفة قالت: لا نسلم أن كل مرئي يكون في جهة، وطائفة قالت: لا نسلم أن كل ما كان في جهة فهو جسم. فادعت نفاة الرؤية أن العلم الضروري حاصل بالمقدمتين، وأن المنازع فيهما مكابر.
وهذا هو البحث المشهور بين المعتزلة والأشعرية، فلهذا صار الحُذَّاق من متأخري الأشعرية على نفي الرؤية وموافقة المعتزلة، فإذا أطلقوها موافقة لأهل السنة فسَّروها بما تُفسِّرُها به المعتزلة، وقالوا: النزاع بيننا وبين المعتزلة لفظي.
وطائفة نازعت في المقدمة الثانية -وهي انتفاء اللازم- وهي كالهشامية والكرامية وغيرهم، فأخذت المعتزلة وموافقوهم يشنعون على هؤلاء، وهؤلاء وإن كان في قولهم بدعة وخطأ، ففي قول المعتزلة من البدعة والخطأ أكثر مما في قولهم.