للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بمثل أو بأزيد منه توجب ألا يرى إلا ضعفا أو أكبر من ذلك، وهو باطل قطعا، ورؤيته أكبر بأقل من مثل توجب الانقسام، ورؤية بعضها على ما هو عليه بعضها أكبر بمثل توجب ترجيحا بلا مرجح، فوجب أن يرى الكل على حاله، فلا تفاوت حينئذ بالصغر والكبر، فتعين أن يكون التفاوت بحسب رؤية بعض دون بعض (١).

ثانيا: إذا نظرنا إلى مجموع كفٍّ من التراب، رأيناه وذلك الكيف من التراب عبارة عن مجموع تلك الذوات وتلك الأجزاء الصغيرة، فإما أن يكون إدراك كل واحد من تلك الذوات مشروطا بإدراك الآخر فيلزم الدور؟ وإما أن لا يكون إدراك شيء منها مشروطا بإدراك الآخر وحينئذ يكون إدراك كل واحد من تلك الذوات حالتي الاجتماع والانفراد على السوية؟ مع أنا نراها حال الاجتماع ولا نراها حال الانفراد، وحينئذ لا يكون الإدراك واجب الحصولِ عند حصول تلك الشرائط، وإما أن يكون إدراك البعض مشروطا بإدراك الباقي ولا ينعكس، وهذا محال، ومع أنه محال فالمقصود حاصل.

أما أنه محال: فلأن الأجزاء متساوية فيكون هذا مفتقرا إلى ذلك، مع أن ذلك غني عن هذا، وهذا ترجيح من غير مرجح وهو محال، وأما أن المقصود حاصل، فلأن إدراك أحد تلك الأجزاء إذا كان غنيا عن إدراك الآخر كان حاله عند الاجتماع وعند الانفراد في صحة الإدراك على السوية، وحينئذ يعود المحذور، فهذان برهانان قويان في بيان أنه عند حصول هذه الشرائط فالإدراك غير واجب الحصول.

وقولهم: لو لم يجب الإدراك لجاز أن يكون بحضرتنا جبال وبوقات ونحن لا نراها ولا نسمعها (٢).

قلنا: هذا معارض بجملة العاديات، فإن الأمور العاديَّة تجوز نفائضها مع جزمنا بعدم وقوعها، ولا سفسطة هاهنا، فكذا الحال في الجبال الشاهقة التي لا نراها، فإنا نجوز وجودها وتجزم بعدمها؛ وذلك لأن الجواز لا يستلزم الوقوع ولا ينافي الجزم بعدمه، فمجرد تجويزها لا يكون سفسطة.

ثم نقول: إن كان مأخذ الجزم بعدم الجبل المذكور ما ذكرتم من وجوب الرؤية عند اجتماع شرائطها لوجب أن لا نجزم به إلا بعد العلم بهذا، واللازم باطل؛ لأنه لا يجزم به من لا يخطر بباله هذه المسألة؛ ولأنه ينجر إلى أن يكون ذلك الجزم نظريا مع اتفاق الكل على كونه ضروريا (٣).


(١) انظر: شرح المواقف للجرجاني (٨/ ١٥٢ - ١٥٣) باختصار.
(٢) انظر: الأربعين في أصول الدين للرازي (١/ ٣٠٣).
(٣) انظر: شرح المواقف للجرجاني (٨/ ١٥٢ - ١٥٣).