للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المطلب الثاني: شبه القدرية العقلية في باب القدر، والرد عليهم.]

استدل القدرية من المعتزلة والرافضة ونحوهم على مذهبهم في أن العباد يخلقون أفعالهم بشبهات عقلية متعددة، وهي كما يلي:

الشبهة الأولى: لو كانت أفعالنا خلقًا للَّه لكانت مقدورة لنا وله، ولو كان ذلك كذلك لجاز أن نفعلها ويتركها هو، أو نتركها ويفعلها، فيكون الشيء الواحد مفعولا متروكًا (١).

الرد عليهم:

١ - أن هذا الاحتمال باطل، لأنه لا يمكن للمخلوق أن يفعل شيئًا خارجًا عن قدرة اللَّه وإرادته ومشيئته.

٢ - أن المَلِكَ إذا جرى في مُلكه ما لا يريد دلَّ ذلك على نقصه أو ضعفه أو عجزه، واللَّه تعالى موصوف بصفات الكمال، لا يجوز عليه في ملكه نقص ولا ضعف ولا عجز، فكيف يكون في مُلكه ما لا يُريده، ويُريده أضعف خلقه فيكون؟! كلا أن يأمر بالفحشاء أو يكون في ملكه إلا ما يشاء (٢).

٣ - أن الرب سبحانه فاعل غير منفعل، والعبد فاعل منفعل وهو في فاعليته منفعل للفاعل الذي لا ينفعل بوجه، فالجبرية شهدت كونه منفعلا يجري عليه الحكم بمنزلة الآلة والمحل وجعلوا حركته بمنزلة حركات الأشجار ولم يجعلوه فاعلا إلا على سبيل المجاز فقام وقعد وأكل وشرب وصلى وصام عندهم بمنزلة مرض وألم ومات ونحو ذلك مما هو فيه منفعل محض، والقدرية شهدت كونه فاعلا محضا غير منفعل في فعله وكل من الطائفتين نظر بعين عوراء وأهل العلم والاعتدال أعطوا كلا المقامين حقه ولم يبطلوا أحد الأمرين بالآخر فاستقام لهم نظرهم ومناظرتهم واستقر عندهم الشرع والقدر في نصابه ومهدوا وقوع الثواب والعقاب على من هو أولى به فأثبتوا نطق العبد حقيقة وإنطاق اللَّه له حقيقة قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: ٢١] فالإنطاق فعل اللَّه الذي لا يجوز تعطيله والنطق فعل العبد الذي لا يمكن إنكاره، وكذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [يونس: ٢٢] وقوله: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي﴾ [الأنعام: ١١] فالتسيير فعله حقيقة والسير فعل العبد حقيقة، فالتسيير فعل محض، والسير فعل وانفعال، ومن هذا قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا﴾ [الأحزاب: ٣٧] فهو سبحانه المُزَوِّج ورسوله المتزوج، وقوله: ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ [الدخان: ٥٤]


(١) انظر: تمهيد الأوائل للباقلاني (ص ٣٠٦).
(٢) انظر: الإنصاف للباقلاني (ص ١٥٥).