للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال ابن تيمية: "وأما دعواه ودعوى غيره من الجهمية من المعتزلة ونحوهم أن الرؤية التي أخبر بها الرسول مزيد علم فمن سمع النصوص علم بالاضطرار أن الرسول إنما أخبر برؤية المعاينة، وأيضًا فإن أدلة المعقول الصريحة تجوز هذه الرؤية" (١).

وقال أيضًا: "أما إثبات رؤية اللَّه تعالى بالأبصار في الآخرة فهو قول سلف الأمة وأئمتها، وجماهير المسلمين من أهل المذاهب الأربعة وغيرها، وقد تواترت فيه الأحاديث عن النبي عند علماء الحديث، وجمهور القائلين بالرؤية يقولون: يرى عيانا مواجهة، كما هو المعروف بالعقل" (٢).

[الرد على الدليل العقلي الثالث]

١ - نقول لهم: تفريقكم في نقل حكم الشاهد إلى الغائب بين الرؤية وبين غيرها من الصفات تفريق بين متماثلين، فكما نقلتم حكم الشاهد إلى الغائب في صفة الحياة والعلم، فكذلك يلزمكم في الرؤية.

وهؤلاء اختلط عليهم إدراك العقل مع إدراك البصر، فإن العقل هو الذي يدرك ما ليس في جهة -أعني في مكان- وأما إدراك البصر فظاهر من أمره أن من شرطه أن يكون المرئي منه في جهة -أعني في مكان- ولا في كل جهة فقط بل في جهة ما مخصوصة، ولذلك ليس تتأتى الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي، بل بأوضاع محدودة وشروط محدودة أيضًا، وهي ثلاثة أشياء: "حضور الضوء، والجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصر، وكون المبصر ذا ألوان ضرورة"، والرد هذه الأمور المعروفة بنفسها في الأبصار هو رَدٌّ للأوائل المعلومة بالطبع للجميع، وإبطال لجميع علوم المناظر والهندسة، وقد قال القوم -أعني الأشعرية-: "إن أحد المواضع التي يجب أن ينقل فيها حكم الشاهد إلى الغائب هو الشرط، مثل: حكمنا أن كل عالم حي؛ لكون الحياة تظهر من الشاهد شرطا في وجود العالم"، وإن كان كذلك قلنا لهم: وكذلك يظهر في الشاهد أن هذه الأشياء هي شروط في الرؤية فألحقوا الغائب منها بالشاهد على أصلكم (٣).

٢ - أن قولكم: "جائز أن يرى الإنسان ما ليس في جهة" هذا إنما يكون متصورًا في العقول، أما في الخارج فلا يوجد مرئيٌ إِلا وهو في جهة.


(١) انظر: بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (٢/ ٤٥٢).
(٢) انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية (٣/ ٣٤١).
(٣) انظر: مناهج الأدلة لابن رشد (ص ١٨٦) وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (٢/ ٤٣٩ - ٤٤٠) والدرء له أيضًا (٦/ ٢٢٩).