للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإن ادعيتم أن هذا العلم استدلالي فلا بد فيه من الدليل، وقولكم: "إن كل مرئي لا بد وأن يكون مقابلًا" يقرب من أنه إعادة للدعوى؛ لأن المقابل هو الذي يكون مختصًا بجهة قدام الرائي، فكأنكم قلتم: "الدليل على أن ما لا يكون في الجهة لا يكون مرئية هو أن كل ما كان مرئية يكون في الجهة". والمنطقيون يسمون هذه القضية الثانية عكس نقيض القضية الأولى، وفي الحقيقة لا فرق بين القضيتين في الظهور والخفاء، فلم يجز جعل أحدهما حجة في صحة الأخرى، بل يقرب هذا من أن يكون إعادة المطلوب بعبارة أخرى.

والوجه الثاني في الجواب: ثبت أن المقابلة شرط للرؤية في الشاهد، فلم قلتم: إنه في الغائب كذلك؟ وتقريره: ما ذكرناه في الجواب عن الشبهة الأولى (١)، هو أن ذات اللَّه تعالى مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث، والمختلفان في الماهية لا يجب استواؤهما في اللوازم، فلم يلزم من كون الإدراك واجبًا في الشاهد عند حضور هذه الشرائط كونه واجبًا في الغالب عند حضورها، ومما يدل عليه: أن الإدراك في الشاهد مشروط بشرائط ثمانية هي: سلامة الحاسة، وكون الشيء بحيث أن يكون جائز الرؤية، وأن لا يكون في غاية البعد، وأن لا يكون في غاية القرب، وأن يكون مقابلًا للرائي أو في حكم المقابل، وأن لا يكون في غاية اللطافة، وأن لا يكون بين الرائي والمرئي حجاب، وأن لا يكون في غاية الصغر، فلا يمكن اعتبار هذه الشرائط في رؤيته (٢).

وفي الغالب نقطع بأنه لا يمكن اعتباره، فكذلك لا يمتنع أن يكون الإدراك في الشاهد واجب الحصول، وفي الغائب لا يكون واجبًا (٣).

وتمام الكشف والتحقيق: أنا ذكرنا في المقدمات: أن المراد من الرؤية أن يحصل لنا انكشاف بالنسبة إلى ذاته المخصوصة، وهو يجري مجرى الانكشاف الحاصل عند إبصار الألوان والأضواء، وإذا كان الأمر كذلك فإذا الانكشاف يجب أن يكون على وفق المكشوف، فإن كان المكشوف مخصوصًا بالجهة والحيز: وجب أن يكون الانكشاف كذلك، وإن كان المكشوف منزهًا عن الجهة: وجب أن يكون انكشافه منزهًا عن الحيز والجهة" (٤).


(١) انظر: نفس المصدر (١/ ٣٠٣ - ٣٠٤).
(٢) انظر: الأربعين في أصول الدين للرازي (١/ ٣٠٣).
(٣) انظر: الأربعين في أصول الدين للرازي (١/ ٣٠٣).
(٤) انظر: الأربعين في أصول الدين للرازي (١/ ٣٠٣ - ٣٠٤)، وشرح المواقف للجرجاني (٨/ ١٥٥).