للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومما يبين ذلك: أن اللَّه تعالى ذكر هذه الآية يمدح بها نفسه ، ومعلوم أن كون الشيء لا يُرى ليس صفة مدح؛ لأن النفي المحض لا يكون مدح إن لم يتضمن أمرًا ثبوتيًا، ولأن المعدوم أيضًا لا يرى، والمعدوم لا يُمدح فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه، وهذا أصل مستمر وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمن ثبوتًا لا مدح فيه ولا كمال" (١).

وقال ابن القيم: "فلم ينف موسى الرؤية، ولم يريدوا بقولهم: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ إنا لمرئيون؛ فإن موسى صلوات اللَّه وسلامه عليه نفى إدراكهم إياهم بقوله: ﴿كَلَّا﴾ وأخبر اللَّه سبحانه أنه لا يخاف دَرَكَهَم بقوله: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (٧٧)[طه: ٧٧]. فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يُرى ولا يُدرك، كما لا يُعلم ولا يُحاط به، وهذا هو الذي فهمته الصحابة والأئمة من بعدهم من الآية. قال ابن عباس : ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] لا تحيط به الأبصار. وقال قتادة: "هو أعظم من أن تدركه الأبصار". وقال ابن عطية: "ينظرون إلى اللَّه ولا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصرُه يحيط بهم" (٢).

الوجه الثاني: أن الآية رد عليكم، فهي حجة لأثبات الرؤية لا نفيها، وذلك لأمرين:

الأول: أن معنى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] كما جاء عن ابن عباس وجماعة من السلف: أن الإدراك المنفي هنا هو الإحاطة. والمعنى: لا تحيط به الأبصار (٣).

والإدراك قد يطلق على الإحاطة كثيرًا، كقوله: ﴿أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ﴾ [يونس: ٩٠]، أي: أحاط به من جميع جهاته. ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء: ٦١] أي: محاط بنا. وعلى هذا فمعنى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ﴾ أي: لا تحيط به الأبصار، وإن كانت تراه في الجملة، فالإدراك المنفي هو الإحاطة. والإحاطة لا يستلزم نفيها نفي مطلق الرؤية الثابت في الأحاديث المتواترة والآيات القرآنية.

الثاني: أن معنى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ أي: لا تدركه في دار الدنيا، بدليل قوله: في الآخرة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)[القيامة]. فلما قيد نظرها إلى ربها بقوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أي: يوم القيامة، عرفنا أن ذلك


(١) انظر: منهاج السنة لابن تيمية (٢/ ٣١٧ - ٣٢٠) باختصار.
(٢) انظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم (٦٢٠).
(٣) انظر: تفسير الطبري (٩/ ٤٥٩).