للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من حبل الوريد؛ فيرجع هذا إلى القرب الذاتي اللازم. وفيه القولان: أحدهما: إثبات ذلك وهو قول طائفة من المتكلمين والصوفية. والثاني: أن القرب هنا بعلمه؛ لأنه قد قال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: ١٦] فذكر لفظ العلم هنا دل على القرب بالعلم. ومثل هذه الآية حديث أبي موسى: "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنها تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" (١). فالآية لا تحتاج إلى تأويل القرب في حق اللَّه تعالى إلا على هذا القول وحينئذ فالسياق دل عليه ومما دل عليه السياق هو ظاهر الخطاب؛ فلا يكون من موارد النزاع" (٢).

٤ - وأما استدلالكم بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾ [الزخرف: ٨٤] فلا حجة لكم فيه أيضًا، فمعنى الآية أنه إله من في السماء ومن في الأرض ومعبودهم. قال قتادة: "يُعبد في السماء ويُعبد في الأرض" (٣). وقال الطبري: "واللَّه الذي له الألوهة: في السماء معبود، وفي الأرض معبود كما هو في السماء معبود، لا شيء سواه تصلح عبادته، يقول تعالى ذِكره: فأفردوا لمن هذه صفته العبادة، ولا تشركوا به شيئًا غيره" (٤).

وقال ابن عبد البر: "فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجتمع عليه: وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذلك قال أهل العلم بالتفسير" (٥).

٥ - وأما استدلالكم بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣)[الأنعام: ٣] فهو حجة عليكم أيضًا، فإن معنى الآية هو نفس معنى الآية السابقة.

قال الإمام أحمد بن حنبل: "يقول: هو إله من في السموات وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، ولا يخلو من علم اللَّه مكان، ولا يكون علم اللَّه في مكان دون مكان، فذلك قوله: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (١٢)[الطلاق: ١٢]، ومن الاعتبار في ذلك، لو أن رجلًا


(١) أخرجه البخاري (رقم ٢٩٩٢ و ٤٢٠٥) والإمام أحمد في مسنده (رقم ١٩٥٩٩) واللفظ له، وأبو داود (رقم ١٥٢٦) وغيرهم.
(٢) انظر: مجموع الفتاوي لابن تيمية (٦/ ١٩ - ٢٠).
(٣) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (٣/ ١٧٨ رقم ٢٧٩٥) والطبري في تفسير (٢١/ ٦٥٣).
(٤) انظر: تفسير الطبري (٢١/ ٦٥٣) تحقيق: أحمد شاكر. الناشر: مؤسسة الرسالة. الطبعة الأولى ١٤٢٠ هـ.
(٥) انظر: التمهيد لابن عبد البر (٧/ ١٣٤).