للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وسيّره في جمع كثيف من التّتار، فوصل إلى نهر الجوز (١) وتلّ باشر (٢)، وأخذوا حلب (٣) في ثاني صفر من سنة ثمان وخمسين وستمائة وحاصروها حتّى استولوا عليها في تاسع صفر بالأمان، فلمّا ملكوها غدروا بأهل حلب وقتلوا ونهبوا وسبوا وفعلوا تلك الأفعال القبيحة على عادة فعلهم.

وكان رسل التّتار بقرية حَرَسْتَاء (٤) فدخلوا دمشق ليلة الاثنين سابع عشر صفر، وقرئ بعد صلاة الظهر فرمان -أعني مرسوما- جاء من عند ملك التّتار يتضمن الأمان لأهل دمشق وما حولها، وشرع الأكابر في تدبير أمرهم. ثم وصلت التّتار إلى دمشق في سابع عشر شهر ربيع الأوّل، فلقيهم أعيان البلد أحسن ملتقى وقرئ ما معهم من الفرمان المتضمّن الأمان، ووصلت عساكرهم من جهة الغوطة (٥) مارّين من وراء الضّياع إلى جهة الكُسْوة (٦)، وأهلكوا في ممّرهم جماعة كانوا قد تجمّعوا وتحزّبوا، فقتلوا الرجال وسَبَوا النساء والصّبيان، واستاقوا من الأسرى والأبقار والأغنام والمواشي شيئًا كثيرًا" (٧).

عزم التتار بعد ذلك على التوجه إلى مصر لاحتلالها كما احتلوا قبلها العراق ثم الشام، وكان سلطان دمشق هو الملك الناصر (٨)، وسلطان مصر الملك المظفر قطز (٩)، فتوجه الملك المظفر قطز ومعه الملوك والأمراء


(١) ناحية ذات قرى وبساتين ومياه بين حلب والبيرة التي على الفرات وأهل قراها كلهم أرمن. انظر: معجم البلدان لياقوت (٢/ ١٨٣).
(٢) قلعة حصينة، وكورة واسعة في شماليّ حلب، بينها وبين حلب يومان. انظر: مراصد الاطلاع لعبد المؤمن القطيعي (١/ ٢٦٩).
(٣) مدينة عظيمة واسعة كثيرة الخيرات طيبة الهواء صحيحة الأديم والماء. انظر: معجم البلدان لياقوت (٢/ ٢٨٢).
(٤) قرية كبيرة عامرة وسط بساتين دمشق على طريق حمص، بينها وبين دمشق أكثر من فرسخ. انظر: نفس المصدر (٢/ ٢٤١).
(٥) هي الكورة التي منها دمشق، كلها أشجار وأنهار متصلة قلّ أن يكون بها مزارع للمستغلّات إلا في مواضع كثيرة، وهي بالإجماع أنزه بلاد اللَّه وأحسنها منظرا، وهي إحدى جنان الأرض الأربع. انظر: معجم البلدان لياقوت (٤/ ٢١٩).
(٦) ضيعة ومنزل ومنها إلى دمشق اثنا عشر ميلا. انظر: المسالك والممالك الحسن المهلبي العزيزي (١/ ٦٣).
(٧) انظر: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لأبي المحاسن ابن تغري بردي (٧/ ٧٤ - ٧٩).
(٨) الملك الناصر صلاح الدين بن يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين، ولد سنة ٦٢٧ هـ وسلطنوه بعد أبيه سنة ٦٣٤ هـ، كان حليمًا جوادًا موطأ الأكتاف حسن الأخلاق محببًا إلى الرعية فيه عدل في الجملة وقلة جور وصفح، خُدع وعُمل عليه حتى وقع في قبضة التتار فذهبوا به إلى هلاوو فأكرمه، ثم قتله بعد ذلك سنة ٦٥٩ هـ. انظر: العبر للذهبي (٣/ ٢٩٧).
(٩) السلطان الشهيد الملك المظفر، سيف الدين المعزي، كان أكبر مماليك الملك المعز أيبك التركماني، وكان بطلًا شجاعًا، مقدامًا، حازمًا، حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير، وله اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوض اللَّه شبابه بالجنة ورضي عنه، توفي سنة ٦٥٨ هـ. انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (١٤/ ٨٨٧).