للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأمَّا السلَفُ، وجمهورُ أهلِ الفقهِ والحديثِ والتفسيرِ، وجمهورُ متكلِّمي أهلِ الحديثِ من الأشعريةِ وغيرِهم: فلم يمنعوا الوقوعَ إذا كان معَ التوبةِ؛ كما دلَّتْ عليه النصوصُ من الكتابِ والسنةِ، فإن اللهَ يحبُّ التوابينَ، وإذا ابتُلِي بعضُ الأكابرِ بما يتوبُ منه؛ فذاك لكمالِ النهايةِ، لا لنقصِ البدايةِ، كما قال بعضُهم: لو لم تكُنِ التوبةُ أحبَّ الأشياءِ إليه؛ لما ابتلى بالذنبِ أكرمَ الخلقِ عليه.

وأيضًا فالحسناتُ والسيئاتُ تتنوَّعُ بحسَبِ المقاماتِ؛ كما يقالُ: حسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقرَّبِينَ.

فمن فهِم ما تمحوه التوبةُ، وترفعُ صاحبَها إليه من الدرجاتِ، وما يتفاوتُ الناسُ فيه من الحسناتِ والسيئاتِ؛ زالت عنه الشُّبهةُ في هذا البابِ، وأقرَّ الكتابَ والسنةَ على ما فيها من الهُدَى والصوابِ، فإن الغلاةَ يتوهَّمونَ أن الذنبَ إذا صدَر من العبدِ؛ كان نقصًا في حقِّه لا ينجبرُ؛ حتى يجعلوا مَن لم يسجدْ لصنمٍ أفضلَ، وهذا جهلٌ؛ فإن المهاجرينَ والأنصارَ - الذين هم أفضلُ هذه الأمةِ- هم أفضلُ من أولادِهم وغيرِ أولادِهم ممن وُلِد على الإسلامِ، وإن كانوا في أولِ الأمرِ كانوا كفارًا يعبدونَ الأصنامَ؛ بل المنتقلُ من الضلالِ إلى الهدى يُضاعَفُ له الثوابُ؛ كما قال: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات}، فهو أفرحُ بتوبةِ عبدِه من الذي ضلَّت راحلتُه في الأرضِ المَهْلَكةِ، ثم وجَدَها (١).


(١) يشير إلى ما رواه البخاري (٦٣٠٨) ومسلم (٢٧٤٤)، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلًا وبه مهلكة، ومعه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه، فإذا راحلته عنده».

<<  <  ج: ص:  >  >>