الثالثُ: الذي لا يقدِرُ عليه إلا اللهُ؛ وهو جعْلُ الهُدى في القلبِ؛ كقولِه:{من يهد الله فهو المهتدي}، وهذا تنكِرُه القدريةُ أن يكونَ اللهُ هو الفاعلَ لها، بل يزعُمون أن العبدَ يَهْدي نفسَه، وهذا الحديثُ حُجَّةٌ عليهم؛ حيث قال:«فاسْتَهْدوني أهْدِكمْ» بعد قولِه: «كلُّكم ضالٌّ إلا مَن هديتُه».
وعندَهم: لا يقدِرُ من الهُدى إلا على ما فعله من إرسالِ الرسلِ، ونَصْبِ الأدلَّةِ، وإزاحةِ العِلَّةِ، ولا مزيَّةَ للكافرِ على المؤمنِ في هدايةِ اللهِ، ولا نعمةَ له على المؤمنِ عندَهم أعظمُ من نعمتِه على الكافرِ في بابِ الهُدى.
والقسمُ الرابعُ: الهُدى في الآخِرةِ؛ كما قال:{وهدوا إلى الطيب من القول واهدوا إلى صراط الحميد}.
وأما قولُه:«كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمتُه، وكلُّكم عارٍ إلا مَن كسَوْتُه» فيقتضي أصلينِ عظيمينِ:
أحدُهما: وجوبُ التوكُّلِ على اللهِ في الرِّزقِ واللِّباسِ، وأنه لا يقدِرُ أحدٌ غيرُ اللهِ على ذلك قدرةً مُطْلقةً، [والقدرة](١) التي تحصُلُ لبعضِ العبادِ تكونُ على بعضِ أسبابِ ذلك، فليس في المخلوقاتِ ما هو وحدَه سببٌ تامٌّ لحصولِ المطلوبِ، فمن ظنَّ الاستغناءَ بالسببِ عن التوكُّلِ؛ فقد ترك الواجبَ عليه من التوكُّلِ، وأخَلَّ بواجبِ التوحيدِ، ولهذا
(١) في النسخ الخطية: القدر، والمثبت من مجموع الفتاوى والفتاوى الكبرى.