وأما قولُه:«إنكم لن تبلُغوا ضُرِّي فتضرُّوني، ولن تبلُغوا نفعي فتنفعوني»؛ فإنه بيَّن بذلك أنه ليس هو بمستعيضٍ فيما يحسِنُ به إليهم من إجابةِ الدعوةِ وغفرانِ الذنوبِ؛ جلبَ منفعةٍ أو دفعَ مضرَّةٍ، كما يفعلُه الخلقُ مع بعضِهم البعض، فلستُ إذا هديتُكم وأطعمْتُكم وكسوتُكم؛ بالذي أطلبُ أن تنفعوني، ولا إذا غفرتُ خطاياكم بالليلِ والنهارِ؛ أتَّقي بذلك أن تضرُّوني، فإنكم لن تبلُغوا ذلك؛ بل عاجزون عن ذلك كلِّه، بل لا تقدِرون إلا على ما أُقَدِّرُه لكم وأُدبرُه، وكذلك ما يأمرُهم من الطاعاتِ وما ينهاهم عنه من السيئاتِ، فإنه لا يتضمنُ استجلابَ نفعِهم كأمرِ السيدِ لعبدِه والوالدِ لولدِه، ولا دفعَ مضرتِهم كنهيِ هؤلاء أو غيرِهم، فنزَّه نفسَه عن لحوقِ نفعِهم وضُرِّهم.
فلهذا ذكر هذين الأصلين بعدَ ذلك، فذكر أن بِرَّهم وفجورَهم، طاعتَهم ومعصيتَهم؛ لا تَزيدُ في ملكِه ولا تنقُصُ، وأن ما يعطيهم إياه مِن غايةِ ما يسألونه نسبتُه إلى ما عندَه أدنى نسبةٍ، فقال:«يا عبادي لو أن أوَّلَكم وآخِرَكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ؛ ما نقص ذلك من مُلكي شيئًا، ولو أن أوَّلَكم وآخِرَكم وجِنَّكم وإنسَكم كانوا على أتْقى قلبِ رجلٍ منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئًا»؛ إذ ملكُه قدرتُه على التصرفِ، فلا تزدادُ ولا تنقُصُ كما تزداد قدرةُ الملكِ بكثرةِ المطيعين، وتنقُصُ بقلةِ المطيعينَ، فإن مُلكَه سبحانَه متعلقٌ بنفسِه، وهو خالقُ كلِّ شيءٍ وربُّه، يؤتي الملكَ من يشاءُ وينزِعُه ممن شاء.
ثم ذكر حالَهم في النوعين: سؤالِ بِرِّه وطاعةِ أمرِه اللَّذَيْن ذكرهما