للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا كلامٌ مستدرَكٌ حقيقةً وشرعًا؛ فإن الحيَّ لا يتصورُ ألا يكون حساسًا محبًّا لما يلائمُه، مبغِضًا لما ينافرُه، ومن قال: إن الحيَّ يُتصورُ عندَه أن يستويَ جميعُ المقدوراتِ؛ فهو أحدُ رجُلَين؛ إما جاهلٌ، وإما مكابرٌ.

فمن زعَم أن المُشاهِدَ لمقامِ توحيدِ الربوبيةِ يدخلُ إلى مقامِ الجمعِ والفناءِ، فلا يشهدُ فرقًا؛ فإنه غالطٌ، بل لا بُدَّ من الفرقِ؛ فإنه أمرٌ ضروريٌّ، لكن إذا خرج عن الفرقِ الشرعيِّ بقِيَ في الفرقِ الطبيعيِّ، فيبقى متبعًا لهواه، لا مطيعًا لمولاه.

ولهذا لمَّا وقعتْ هذه المسألةُ بينَ الجُنيدِ وأصحابِه ذكر لهم الفرقَ الثانيَ؛ وهو أن يفرَّقَ بينَ المأمورِ والمحظورِ، بينَ ما يحبُّه اللهُ وما يكرهُه مع شهودِه للقدْرِ الجامعِ، فيشهدَ الفرقَ في الجمعِ.

ومَن لم يفرِّقْ بينَ المأمورِ والمحظورِ؛ فقد خرج عن دينِ الإسلامِ، وخرج إلى وَحدةِ الوجودِ؛ فلا يفرِّقُون بينَ الخالقِ والمخلوقِ، ولم يخرج كلُّ هؤلاءِ إلى هذا الحدِّ، بل يفرِّقون بين وجهٍ دونَ وجهٍ، فيطيعون اللهَ ورسولَه تارةً، ويعصون اللهَ ورسولَه أخرى، كالعصاة من أهلِ القِبلةِ.

ودعوةُ ذي النونِ تتناولُ نوعَيِ الدعاءِ؛ فقولُه: «لا إلهَ إلا أنتَ» اعترافٌ بتوحيدِ الإلهيةِ، وتوحيدُ الإلهيةِ يتضمَّنُ توحيدَ نوعَيِ الدعاءِ؛ فإن الإلهَ هو المستحِقُّ لأنْ يُدْعى دعاءَ عبادةٍ ودعاءَ مسألةٍ، وهو اللهُ لا إلهَ إلا هو.

<<  <  ج: ص:  >  >>