للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلا هو، ويبيعُها بما يختارُ؛ لا رَيْبَ أنه مِن جنس ظلمِ الكُلَفِ السُّلطانيةِ، وسبيلُ أهلِ الوَرَعِ لا يأكُلون مِن الشِّواءِ المضَمَّنِ أو المِلْحِ المُضَمَّنِ؛ فإنه مكروهٌ لأجلِ الشُّبْهةِ؛ فإنه إذا كان لا يبيعُ إلا هو بما يختارُ؛ صار كأنه يُكْرِه الناسَ على الشِّراءِ منه، فيأخذُ منهم أكثرَ مما يجبُ عليهم، ويختلطُ بمالِه فيكونُ بمالِه شُبْهةٌ.

ومَن أخذ ذلك من المباحِ - وإن كان إنما يأخذُه بضمانٍ-؛ فليست كغيرِها؛ فإن أصلَ المِلْحِ مشتركٌ بينَ الناسِ، فلا يحرُمُ شراؤُها؛ لأن المشتريَ لا يظلمُ أحدًا، والمباحُ لم يملِكْه بمالِه، فيجوزُ للمشتري دفعُ المالِ ليأخُذَ ما كان له أخذهُ بغيرِ شيءٍ، كما يجوزُ أن يشتريَ الرجلُ ملكَه المغصوبَ من غاصبِه، وله بذْلُ ثمنِه وإنْ حَرُمَ على البائعِ، كما يجوزُ رِشْوةُ العاملِ ليدفعَ الظُّلمَ لا لمنعِ الحقِّ، وإرشاؤه حرامٌ فيهما، وكذلك الأسيرُ والعبدُ المعتَقُ والزوجةُ المطَلَّقةُ؛ إذا أنكَروا ذلك، جاز لهم دفعُ شيءٍ ليُقِرُّوا بالحقِّ، وإنْ حرُم على الآخذِ، ومن ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم: «ما وُقِيَ به العِرْضُ؛ فهو صدقةٌ» (١).

فلو أعطى الرجلُ شاعرًا لئلَّا يكذبَ عليه بِهَجْوٍ أو غيرِه، أو لئلَّا يقولَ في عِرْضِه ما يحرُمُ عليه؛ كان بَذْلُه لذلك جائزًا، وما أخذه ذلك لئلَّا يَظْلِمَه حرامٌ؛ لأنه يجبُ عليه تَرْكُ ظُلْمِه، وتَرْكُ الكذبِ عليه بلا عِوَضٍ، فإذا لم يتركْه إلا لمالٍ؛ كان حرامًا، تُسمِّيه العامةُ: قَطَعَ مصانعَه.


(١) رواه الدارقطني (٢٨٩٥)، والحاكم (٢٣١١) من حديث جابر رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>