للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والرَّحمة على معنيين: رحمة هي خلق الله كائنة عن الرَّحمة التي هي صفة للذَّات غير محدثة ولا مخلوقة. فيقال للمطر: هذا رحمة من الله إذ كان غير الرَّحمة، كما يقال: هذه قدرة الله أي: بقدرة الله كان، وهذا أمر الله، أي: بأمر الله كان، وهذا علم الله، أي: بعلم الله كان، فسمى ما كان عن القدرة قدرة، وما كان عن العلم علمًا، وما كان عن الأمر أمرًا.

قال ذو القرنين للسَد: ﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي﴾ [سورة الكهف:٩٨] وهو عذابه على أهل السَّد، ورحمة للمؤمنين، وليس هو في نفسه رحمة، ولا هو في نفسه عذاب، لو كان في نفسه رحمة لاستحال أن يكون في حال ما هو رحمة عذابًا.

وإنَّما هو أنَّ الله رحم النَّاس به فردَّ عنهم به يأجوج ومأجوج، وعذّب به يأجوج ومأجوج إذ منعهم ما يريدون، وهكذا المطر يُنزله الله فيقتل طائفة من البهائم، ويتأذى به طائفة من الناس، فينجي به بلاد قوم وينبت زروعهم، فيعيش به بهائمهم فيكون رحمة لهم عذابًا للآخرين.

ونظير ذلك قول الله ﷿: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (٨٢)[الإسراء: ٨٢] وقال: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [سورة فصلت: ٤٤] فأخبر أنه عمى على الكفار، وشفاء للمؤمنين، فهو في حالى واحدة عمًا لقوم لأنهم عموا عنه فلم يهتدوا به، هدًى للآخرين لأنَّ الله هداهم به.

قال الله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [سورة الأعراف:٥٧] يريد المطر (١)، وقال: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [سورة الروم: ٥٠] يريد المطر، وقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [سورة الروم: ٤٦]، وقال: ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ﴾ [سورة الإسراء: ١٠٠] يقال: يعني: مفاتيح رزقه، والإنفاق: الفقر، وقال لنبيِّه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)[الأنبياء: ١٠٧]


(١) وافقه جمع من المفسرين، منهم ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٨٦٠٩).