للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإذا كان الجبل العظيم الراسي القوي لم يصمد لرؤية اللَّه تعالى بل تفتت وتدكدك حتى استوى بالأرض، فلا يمكن لبشر بعد ذلك أن يرى اللَّه تعالى في الدنيا عيانًا.

بل المَلَك المخلوق لا أحد يستطع رؤيته في الدنيا على خلقته التي خلقه اللَّه عليها إلا من ثبته اللَّه تعالى من الأنبياء والمرسلين، أما سائر البشر فلا يستطيعون ذلك.

قال ابن تيمية: " ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٣] قيل: أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، فهذا للعجز الموجود في المخلوق، لا لامتناعٍ في ذات المرئي، بل كان المانع من ذاته، لم يكن إلا لنقص وجوده حتى ينتهي الأمر إلى المعدوم الذي لا يتصور أن يُرى خارج الرائي، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية المَلَك في صورته إلا من أيده اللَّه، كما أيد نبينا قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩)[الأنعام: ٨ - ٩] قال غير واحد من السلف: هم لا يطيقون أن يروا المَلَك في صورته، فلو أنزلنا إليهم ملَكًا لجعلناه في صورة بشر، وحينئذ كان يشتبه عليهم هل هو ملك أو بشر، فما كانوا ينتفعون بإرسال الملك إليهم، فأرسلنا إليهم بشرًا من جنسهم يمكنهم رؤيته والتلقي عنه، وكان هذا من تمام الإحسان إلى الخلق والرحمة" (١).

وقد رد الإمام ابن القيم عليهم في استدلالهم بهذه الآية ردا مفصلًا، فقال : "وقد أخبر اللَّه عن أعلم الخلق به في زمانه وهو كليمه ونجيه وصفيه من أهل الأرض أنه سأل ربه تعالى النظر إليه فقال له ربه : ﴿لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ [الأعراف: ١٤٣]. وبيان الدلالة من هذه الآية من وجوه عديدة:

أحدها: أن لا يظن بكليم الرحمن ورسوله الكريم عليه أن يسأل ربَّه ما لا يجوز عليه، بل هو من أبطل الباطل وأعظم المحال.

الوجه الثاني: أن اللَّه لم ينكر عليه سؤاله، ولو كان محالا لأنكره عليه.

الوجه الثالث: أنه أجابه بقوله: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ ولم يقل: إني لا أُرى، ولا: إني لست بمرئي، ولا تجوز رؤيتي، والفرق بين الجوابين ظاهر لمن تأمله، وهذا يدل على أنه مَرئٌّ، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار؛ لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى يوضحه:


(١) انظر: منهاج السنة لابن تيمية (٢/ ٣٣٣).