للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والصديقين النظر إلى وجهه الكريم؛ وذلك أن الرؤية لا تؤثر في المرئي؛ لأن رؤية الرائي تقوم به، فإذا كان هذا هكذا، وكانت الرؤية غير مؤثرة في المرئي لم توجب تشبيهًا ولا انقلابًا عن حقيقةٍ، ولم يستحِلْ على اللَّه ﷿ أن يُريَ عبادَه المؤمنين نفسَه في جنانه" (١).

قال ابن تيمية: "فهذا كله من كلام الأشعري مثل احتجاجه بما ذكره عن المسلمين جميعًا من قولهم: إن اللَّه احتجب بسمع سموات على أنه فوق العرش، وهو إنما احتجب عن أن يراه خلقه، لم يحتجب عن أن يراهم هو، فعُلِمَ أن هذا يحجب العباد عن رؤيته، وهذا يقتضي أنهم يرونه برفع هذه الحجب، وذلك يقتضي أنهم يرونه في الجهة، فإن من يثبت رؤيته في غير جهة من الرائي لا يقول بجواز الحجب المنفصلة أيضًا كما تقدم، وكذلك احتجابه بقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الشورى: ٥١] وأن الآية دلت على أن اللَّه يحجب بعض المخلوقات دون بعض فعلم أنه لا يحتجب عن بعضهم واحتجاجه بذلك على أن اللَّه فوق العرش يقتضي أن يحتجب عمن يراه ببعض مخلوقاته وهذا يستلزم أنه لا يرى إلا في جهة من الرائي وكذلك احتجاجه في مسألة العلم بأن اللَّه نور وأن ذلك يقتضي أنه يرى ويقتضي أن رؤيته توجب علوه وكلام الأشعري في مسألة الرؤية والعلو يقتضي تلازمهما" (٢).

٣ - أنهم يقصدون بقولهم: "في غير جهة" نفي علو اللَّه تعالى عن خلقه، وفوقيته على عرشه واستوائه عليه.

قال الرازي: "نقول: قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأعراف: ٥٤] آية محكمة دالة على أن قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: ٥٤] من المتشابهات التي يجب تأويلها، وهذه نكتة لطيفة، ونظير هذا أنه تعالى قال في أول سورة الأنعام: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [الأنعام: ٣] ثم قال بعده بقليل: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ﴾ [الأنعام: ١٢] فدلت هذه الآية المتأخرة على أن كل ما في السموات فهو ملك اللَّه، فلو كان اللَّه في السموات لزم كونه ملكًا لنفسه وذلك محال، فهكذا هاهنا، فثبت بمجموع هذه الدلائل العقلية والنقلية أنه لا يمكن حمل قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: ٥٤] على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز، وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان: الأول: أن نقطع بكونه تعالى متعاليًا عن المكان والجهة، ولا نخوض في تأويل الآية


(١) انظر: الإبانة عن أصول الديانة للأشعري (ص ٣٥ - ٥٥) باختصار وتصرف.
(٢) انظر: بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (٤/ ٤٦٢).