للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

على التفصيل، بل نفوض علمها إلى اللَّه، وهو الذي قررناه في تفسير قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: ٧] وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه" (١).

وجعل الرازي القول بنفي الجهة المتسلزمة للعلو والفوقية أمرًا بدهيًا اتفق عليه العقلاء سوى من شذ عنهم، ولم يشذ عن جميع العقلاء إلا فريقان وهم الحنابلة والكرامية.

قال الرازي: "إن العلوم البديهية لا يجوز وقوع الاختلاف فيها للجميع العظيم، فلو كان وقوع هذه المقدمة بديهيًا لامتنع إطباق الجمع العظيم على إنكاره، ونرى جمهور الأذكيا من العقلاء متفقين على بطلان هذه المقدمة؛ فإن إثبات الجهة للَّه تعالى لم يقل به إلا الحنبلية والكرامية، وأما كل من سواهم فهم متفقون على أن ذاته منزه عن الاختصاص بالحيز والجهة، فظهر أن هذه المقدمة ليس بديهية" (٢).

وقد أخطأ الرازي في ذلك القول خطأً عظيمًا، وجَهِل ما كان عليه سلفُ الأمة وأئمتُها من إثبات الرؤية في الآخرة إثباتًا حقيقيًا بالأبصار عيانًا، وقد بيَّن ابن تيمية خطأ الرازي في ذلك وانحرافَه عن منهج الأنبياء والمرسلين، وتحريفَه لكلام رب العالمين.

قال ابن تيمية: "بل خصومه في هذا الباب جميع الأنبياء والمرسلين وجميع الصحابة والتابعين، وجميع أئمة الدين من الأولين والآخرين، وجميع المؤمنين الباقين على الفطرة الصحيحة -دع ما قد تنازع فيه من ذلك- فإنهم لا يطلقون على اللَّه هذا الإطلاق الذي ذكره، وإن كان فيهم وفي سائر الطوائف من نص بالصفات التي يطلق عليها هو وأمثاله أنها أجزاء وأبعاض، لكنهم لا يطلقون الألفاظ الموهمة المجملة إلا إذا نص الشرع، فأما ما لم يرد به الشرع فلا يطلقونه إلا إذا تبين معناه الصحيح الموافق للشرع، ونفي المعنى الباطل وفي لفظ الأجزاء، والأبعاض إجمال وإيهام كما سنذكره إن شاء اللَّه، وما علمت أحدا من الحنابلة من يطلقه من غير بيان، بل كتبهم مصرحة بنفي ذلك المعنى الباطل، ومنهم من لا يتكلم في ذلك بنفي ولا إثبات.

فلا ريب أن الكتب الموجودة بأيدي الناس، تشهد بأن جميع السلف من القرون الثلاثة كانوا على خلاف ما ذكره، وأن الأئمة المتبوعين عند الناس والمشايخ المقتدى بهم، كانوا على خلاف ما ذكره، وهذه أئمة المالكية، والشافعية، والحنفية، وأهل الحديث، والصوفية على ذلك، بل أئمة الصفاتية من الكلابية والكرامية والأشعرية


(١) انظر: تفسير الرازي (١٤/ ٢٦٩).
(٢) انظر: الأربعين في أصول الدين للرازي (١/ ١٥٢).