للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال ابن تيمية: "النفاة الذين قصدوا إثبات حدوث العالم بإثبات حدوث الجسم لم يثبتوا بذلك حدوث شيء، ثم إنهم جعلوا عمدتهم في تنزيه الرب عن النقائص على نفي "الجسم" ومن سلك هذا المسلك لم ينزه اللَّه عن شيء من النقائص ألبتة؛ فإنه ما من صفة ينفيها لأنها تستلزم التجسيم وتكون من صفات الأجسام إلَّا يقال له فيما أثبته نظير ما يقوله هو في نفس تلك الصفة" (١).

الرد على الشبهة الثانية: وهي زعمهم أن ذلك يستلزم إثبات الجهة.

١ - يقال لهم: "لفظ "الجهة" قد يراد به شيء موجود غير اللَّه فيكون مخلوقًا، وقد يراد به ما ليس بموجود غير اللَّه تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم.

ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ "الجهة" ولا نفيه، كما فيه إثبات "العلو" و"الاستواء" و"الفوقية" و"العروج إليه" ونحو ذلك، وقد عُلم أن ما ثمّ موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق ، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، فيقال لمن نفي الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق، فاللَّه ليس داخلا في المخلوقات؛ أم تريد بالجهة ما وراء العالم، فلا ريب أن اللَّه فوق العالَم، بائن من المخلوقات. كذلك يقال لمن قال: إن اللَّه في جهة: أتريد بذلك أن اللَّه فوق العال، أو تريد به أن اللَّه داخل في شيء من المخلوقات. فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل" (٢).

٢ - نقول لهم أيضًا: أن لفظ "الجهة" قد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير اللَّه كان مخلوقًا، واللَّه تعالى لا يحصره ولا يحيط به شيء من المخلوقات فإنه بائن من المخلوقات، ومن نفي الجهة وأراد بالنفي كون المخلوقات محيطة به أو كونه مفتقرًا إليها فهذا حق، لكن عامتهم لا يقتصرون على هذا، بل ينفون أن يكون فوق العرش رب العالمين، أو أن يكون محمدٌ عرج به إلى اللَّه، أو أن يصعد إليه شيء وينزل منه شيء، أو أن يكون مباينًا للعالم، بل تارًا يجعلونه لا مباينا ولا محايثًا، فيصفونه بصفة المعدوم والممتنع، وتارة يجعلونه حالا في كل


(١) انظر: مجموع الفتاوي (١٣/ ١٦٤ - ١٦٦).
(٢) انظر: التدمرية لابن تيمية (ص ٦٦ - ٦٧) ومجموع الفتاوى لابن تيمية (٣/ ٤٢).