للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الخامس: أن يقال: إذا عُرض على العقل الصريح ذات يمكنها أن تتكلم بقدرتها وتفعل ما تشاء بنفسها، وذات لا يمكنها أن تتكلم بمشيئتها ولا تتصرف بنفسها ألبتة بل هي بمنزلة الزَّمِن الذي لا يمكنه فعل يقوم به باختياره، قضى العقل الصريح بأن هذه الذات أكمل وحينئذ فأنتم الذين وصفتم الرب بصفة النقص، والكمال في اتصافه بهذه الصفات لا في نفي اتصافه بها.

السادس: أن يقال: الحوادث التي يمتنع كون كل منها أزليا ولا يمكن وجودها إلا شيئًا فشيئًا إذا قيل: أيما أكمل أن يقدر على فعلها شيئًا فشيئًا أو لا يقدر على ذلك؟ كان معلوما -بصريح العقل- أن القادر على فعلها شيئًا فشيئًا أكمل ممن لا يقدر على ذلك. وأنتم تقولون: إن الرب لا يقدر على شيء من هذه الأمور؛ وتقولون إنه يقدر على أمور مباينة له. ومعلوم أن قدرة القادر على فعله المتصل به قبل قدرته على أمور مباينة له، فإذا قلتم: لا يقدر على فعل متصل به لزم أن لا يقدر على المنفصل؛ فلزم على قولكم أن لا يقدر على شيء ولا أن يفعل شيئًا فلزم أن لا يكون خالقًا لشيء؛ وهذا لازم للنفاة لا محيد لهم عنه" (١).

الرد على حجتهم الثالثة: وهي القول بالقابلية.

يقال لهم: هذه الحجة باطلة من وجوه:

الوجه الأول: أن يقال "وجود الحوادث دائمًا" إما أن يكون ممكنًا وإما أن يكون ممتنعًا، فإن كان ممكنًا أمكن قبولها والقدرة عليها دائمًا وحينئذ فلا يكون وجود جنسها في الأزل ممتنعًا؛ بل يمكن أن يكون جنسها مقدورًا مقبولًا؛ وإن كان ممتنعًا فقد امتنع وجود حوادث لا تتناهى؛ وحينئذ فلا تكون في الأزل ممكنة؛ لا مقدورة ولا مقبولة؛ وحينئذ فلا يلزم من امتناعها في الأزل امتناعها بعد ذلك. فإن الحوادث موجودة؛ فلا يجوز أن يقال بدوام امتناعها؛ وهذا تقسيم حاصر يبين فساد هذه الحجة.

الوجه الثاني: أن يقال: لا ريب أن الرب تعالى قادر: فإما أن يقال إنه لم يزل قادرًا، وإما أن يقال بل صار قادرًا بعد أن لم يكن، فإن قيل: لم يزل قادرًا -وهو الصواب- فيقال: إذا كان لم يزل قادرًا فإن كان المقدور لم يزل ممكنًا أمكن دوام وجود الممكنات فأمكن دوام وجود الحوادث؛ وحينئذ فلا يمتنع كونه قابلًا لها في الأزل.

وإن قيل: بل كان الفعل ممتنعًا ثم صار ممكنًا. قيل: هذا جمع بين النقيضين، فإن القادر لا يكون قادرًا على ممتنع، فكيف يكون قادرًا مع كون المقدور ممتنعًا؟ ثم يقال: بتقدير إمكان هذا كما قيل: هو قادر في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال، قيل: وكذلك في القبول، يقال: هو قابل في الأزل لما يمكن فيما لا يزال.


(١) انظر: جامع الرسائل لابن تيمية (٢/ ٣٤ - ٣٦).