للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نجد أهل البدع لا يكادون يحتجون بحجة سمعية ولا عقلية إلا وهي عند التأمل حجة عليهم لا لهم، وبكل حال فقصة إبراهيم إلى أن تكون حجة عليهم أقرب منها إلى أن تكون حجة لهم، وهذا بيِّنٌ وللَّه الحمد، بل ما ذكره اللَّه عن إبراهيم يدل على أنه كان يثبت ما ينفونه عن اللَّه؛ فإن إبراهيم قال: ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم: ٣٩] والمراد به: أنه يستجيب الدعاء كما يقول المصلي سمع اللَّه لمن حمده وإنما يسمع الدعاء ويستجيبه بعد وجوده؛ لا قبل وجوده" (١).

ب- ومما يزيد الأمر وضوحًا أن الأفول لم يَرِد أبدًا بمعنى التغير والحركة، وإنما بإجماع أهل اللغة هو المغيب والاحتجاب، وأيضًا كان قوم إبراهيم مشركين يعبدون اللَّه ويعبدون مع اللَّه غيره، وإبراهيم كان قد تبرأ من جميع ما يعبدون سوى اللَّه تعالى، ولم يُقِر بأن الكوكب والقمر والشمس ربًا وإلهًا، ولو كان ذلك إقرارًا منه لكان حجة عليكم وعلى فساد قولكم؛ لأنه حينئذ يكون مقرًا بأن رب العالمين قد يكون متحيزًا متنقلًا من مكان إلى مكان، متغيرًا، فعلم بهذا بطلان احتجاجكم بقصة إبراهيم (٢).

ج- يقال لهم: أن لفظ التغير معناه تغير صفة الشيء واستحالته من حال إلى حال، واستخدام هذا اللفظ وهو "التغير" في حق اللَّه تعالى يوهم معاني باطلة، كالاستحالة والفساد، مثل: انقلاب صفات الكمال إلى صفات نقص، أو تفرق الذات، ونحو ذلك مما يجب تنزيه اللَّه عنه. والغير والتغير من مادة واحدة فإذا تغير الشيء صار الثاني غير ما كان، فما لم يزل على صفة واحدة لم يتغير ولا تكون صفاته مغايرة له، وأما كونه سبحانه يتصرف بقدرته، فيخلق ويستوي ويفعل ما يشاء بنفسه ويتكلم إذا شاء، ونحو هذا لا يسمونه تغيرًا، ولكن حجج النفاة مبناها على ألفاظ مجملة موهمة كما قال الإمام أحمد: يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم حتى يتوهم الجاهل أنهم يعظمون اللَّه وهم إنما يقود قولهم إلى فرية على اللَّه (٣).

د- نقول لهم: ماذا تقصدون بلفظ "التغير"؟ إن أردتم الاستحالة فليس بصحيح، وإن أردتم التحرك فليس بصحيح أيضًا، وإن أردتم الإمكان فهو أفسد مما قبله، فظهر بهذا فساد تصوركم لمعنى التغير على كل الأحوال (٤).


(١) انظر: جامع الرسائل لابن تيمية (٢/ ٥٠ - ٥١) باختصار، ودرء تعارض العقل والنقل له أيضًا (٩/ ٨٣ - ٨٤).
(٢) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (١/ ١١٠ - ١١١) باختصار، و (١/ ٣١٠ - ٣١٧) ومجموع الفتاوي له أيضًا (٦/ ٢٨٤ - ٢٨٦).
(٣) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (٤/ ٧١ - ٧٥).
(٤) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (٦/ ٢٨٤ - ٢٨٧).