وهي كما ترى لا تنفي الرؤية مطلقًا، إنما تمنع منها في الدنيا فقط، وتبين أن المراد بالإيمان به تعالى أي: أنه لا يراه أحد من خلقه في الدنيا.
الرد على الوجه الرابع: أن التسبيح كما أنه تنزيه للَّه تعالى عن النقائص، فهو كذلك تعظيم وإجلال للَّه تعالى. والمراد هو تنزيه اللَّه تعالى وتعظيمه وإجلاله عن أن يُرى في الدنيا أو أن يتحمل رؤيته مخلوق في هذه الدنيا، بل ثبتت الرؤية للَّه تعالى في الدار الآخرة عن اللَّه وعن رسوله ﷺ.
والرؤية ليست كما تزعمون من النقائص، فإنها في المخلوق كمال وكل كمال اتصف به المخلوق لا نقص فيه بحال فاللَّه أحق وأولى أن يتصف به، لا سيما وقد أثبتها اللَّه لنفسه، وخص بها أهل جنته، وأثبتها له رسوله ﷺ، بل وسألها موسى ﵇ في الدنيا، ولم يعاتبه اللَّه على ذلك، فكيف يقال بعد ذلك: أنها من النقائص وجميع الأدلة من الكتاب والسنة خلاف ذلك؟
وقد سبق أن بيَّنَّا أن الذي تمتنع رؤيته بإطلاق هو المعدوم، وأن ذلك لا مدح فيه البته بأي وجه من الوجوه، وهذا هو الذي يتنزه اللَّه تعالى عنه.
الرد على الوجه الخامس: أن قولكم ذلك لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها لا من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان. وليست توبة موسى ﵇ بعدما أفاق لذنب قاله أو فعله، وإنما لأنه علم أن رؤية اللَّه في الدنيا غير ممكنة لأحد من البشر، بدليل اندكاك الجبل حينما تجلى اللَّه تعالى له.
قال مجاهد:"سبحانك تبت إليك"، أن أسألك الرؤية" (١).
وأيضًا لم يعاتبه اللَّه تعالى على سؤاله الرؤية، ولم ينهه عن ذلك كما نهى نوحًا ﵇ في سؤاله منه تعالى أن ينجي ولده الذي أُغرق لأنه من أهله، حينما قال اللَّه تعالى له: ﴿قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٤٦)﴾ [هود: ٤٦]. ولذلك سارع نوح ﵇ للاستعاذة باللَّه من سؤاله ذلك، وبادر بالتوبة وطلب المغفرة والرحمة منه تعالى، كما قال اللَّه تعالى عنه: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٤٧)﴾ [هود: ٤٧].
قال الباقلاني: "لم يقل جل اسمه أنه تاب من مسألته إياه الرؤية، فيمكن أن يكون ذكر ذنوبا له قد قدم التوبة منها، فجدد التوبة عند ذكرها لهول ما رأى، كما يسارع الناس إلى التوبة ويجددونها عند مشاهدة الأهوال