فأما أهل الفِطَر التي لم تُغيَّر فلا ينكرون هذا العلم، وإذا كان كذلك فأهل المذاهب الموروثة لا يمتنع إطباقهم على جحد العلوم البديهية، فإنه ما من طائفة من طوائف الضلال -وإن كثرت- إلا وهي مجتمعة على جحد بعض العلوم الضرورية.
الثالث: أن يقال: ما من طائفة من طوائف الكلام والفلسفة إلا وجمهور الناس يقولون: "إنهم جحدوا العلوم الضرورية". فالقائلون بأن الممكن قد يترجح أحد طرفيه بلا مرجح من القادر أو غيره، يقول جمهور العقلاء: إنهم جحدوا العلوم الضرورية.
والقائلون بأن الأجسام لا تبقى والأعراض لا تبقى، يقول جمهور الناس: إنهم جحدوا العلوم الضرورية.
والقائلون بأن الأصوات المتعاقبة تكون قديمة أزلية الأعيان باقية، وأن الأصوات المسموعة من الآدميين هي قديمة، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري.
والقائلون بأن الكلام هو معنى واحد: هو الأمر بكل ما أمر به، والخبر عن كل ما أخبر به، وأنه وإن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة، يقول جمهور العقلاء: إنهم جحدوا العلم الضروري.
والقائلون بأن العالمِ هو العِلم والمعلوم، والعاقل هو العَقل والمعقول، والعاشق هو العشق والمعشوق، واللذة هي الملتذ، والعلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلوم الضرورية.
والقائلون بأن الوجود الواجب وجود مطلق بشرط الإطلاق أو لا بشرط، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلوم الضرورية.
والقائلون بأن النفس لا تدرِك إلا الكليات دون الجزئيات، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري.
والقائلون بأن كل موجود يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمسة، وأن الصوت يُرى، والطعم يُسمع، واللون يُشم، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري.
والقائلون بأنه يحدث إرادة لا في محل، أو يحدث فناء لا في محل، يقول جمهور العقلاء: أن فساد قولهم معلوم بالضرورة.
والقائلون بأن الإرادة تحدُث في الإنسان من غير سبب يوجب حدوثها، مما يقول جمهور العقلاء: إن فساد قولهم معلوم بالضرورة.