للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والخنا، فإنه وإن وُصف بالإحكام لا يوصف بالإتقان، إذا ثبت هذا -ومعلوم أن في أفعال العباد ما يشتمل على التهود والتنصر والتمجس وليس شيءُ من ذلك متقنًا- فلا يجوز أن يكون اللَّه تعالى خالقًا لها" (١).

والمراد بصنع اللَّه حينئذٍ "الإثابة والمعاقبة. وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتي بها على الحكمة والصواب، حيث قال: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ يعني أنَّ مقابلته الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب: من جملة إحكامه للأشياء وإتقانه لها، وإجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه، فيكافئهم على حسب ذلك" (٢).

الرد عليهم: أن الآية لا تدل على ما ذهبتم إليه من نفي خلق اللَّه لأفعال العباد، أو جَعْلِ المراد بصنع اللَّه إثابته ومعاقبته ومكافأته، بل هي حجة عليكم وذلك لما يلي:

١ - أن معنى قوله تعالى: ﴿أَتْقَنَ﴾ أي: "أوثقَ خلقَه، وأحكمَه، وأحسنَ كل شيء خلقه" (٣). فيكون المعنى: "أتقن كُلَّ ما خلقَ، وأودعَ فيه من الحكمة ما أودع" (٤). وهذا عام في الخلقِ جميعِه.

٢ - أن قولكم هذا يستلزم أن الإتقان أيضًا يكون الأعراض الحَسَنة دون السيئة، وهذا ممتنع، لأن الإتقان لا يحصل إِلَّا في المُركَّبات فيمتنع وصف الأعراض بها (٥).

٣ - أنه يجب التفريق في الإرادة الإلهية بين نوعين: إرادة تتعلق بالأمر المتضمنة للمحبة والرضا وهي الإرادة الدينية، وإرادة تتعلق باخلق وهي المشيئة والإرادة الكونية القدرية، فكل الأفعال لا تخرج عن قدرة اللَّه تعالى، وهو تعالى خالق العباد وأفعالهم بإرادته، ومع ذلك لم يأمر بالكفر والفسوق والعصيان، كما أنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر، وهذا ما فهمه السلف الصالح، مثل قول ابن مسعود لما سئل عن المفوَّضَة: "أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، واللَّه ورسوله بريئان منه". وكذلك قال أبو بكر في الكلالة، وقال عمر نحو ذلك. ومرادهم أن الصواب قد أمر اللَّه


(١) انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ص ٣٥٨).
(٢) انظر: تفسير الزمخشري (٣/ ٣٨٧) وهذه الاعتزالية لم يتفطن لها ابن المنير في كتابه الانتصاف من الكشاف.
(٣) انظر: تفسير الطبري (١٨/ ١٣٨).
(٤) انظر: تفسير ابن كثير (٦/ ٢١٧).
(٥) انظر: تفسير الرازي (٢٤/ ٥٧٤).