للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فعلٍ أوجبه عليه، ألا ترى بالإجماع منا ومنكم ومن جميع المسلمين: أن الدية تجب على العاقلة بقتل غيرها خطأ، وإن لم تفعل العاقلة شيئًا يستحق به إيجاب ذلك عليها، وإن ذلك الذي فعلته ليس خَلقًا لها، بل هو خَلق لغيرها، وهو اللَّه تعالى عند المسلمين، وخَلق للقاتل على زعمكم، فصح أن الوجوب حصل بإيجاب اللَّه تعالى وحُكمه، لا بخَلق العاقلة وفعلها، وكذلك جميع الأحكام في الدنيا والآخرة، إنما تجب وتستحق بإيجاب اللَّه تعالى وإرادته، لا بكونها خلقًا للفاعل، ومثل ذلك: الأكل في الصيام ناسيًا فعل العبد، كما هو فعلٌ له عند تعمده، لكن اللَّه تعالى حكم بأن أحدهما مبطل ومفطر، ويذم ويعاقب عليه، والآخر بالضد من ذلك، وإن كان الجميع فعلا للعبد؛ فصح أن ذلك إنما يكون بحكم اللَّه تعالى، لا بكونه خلق للفاعل، فصح ما قُلناه وبَطَل ما توهموه (١).

٣ - أنهم بنوا قولهم ذلك ردًا على الجبرية الذين قالوا: أن العباد مجبورون على ما يكون منهم من أفعال من خير أو شر، وكلا القولين باطلان.

فأفعال العباد هي خلقٌ للَّه وكسبٌ للعباد، وهي بمنزلة الأسباب للمسببات، والقدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق اللَّه الفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب فهذا حق وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات. وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركا وإلا فيكون إثبات جميع الأسباب شركا. وقد قال الحكيم الخبير: ﴿فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ [الأعراف: ٥٧]. ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ [النمل: ٦٠] وقال تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة: ١٤]. فبين أنه المعذب، وأن أيدينا أسباب وآلات وأوساط وأدوات في وصول العذاب إليهم (٢).

فالعباد لهم مشيئة وإرادة وقُدرة، ولكنها تحت مشيئة اللَّه تعالى وإردته وقدرته. قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٩)[التكوير: ٢٩] وقدرة العبد وإرادته واختياره وفعله حقيقة لا مجاز، وهذا يدل على أن الفعل غير المفعول، فحركاتهم واعتقاداتهم أفعال لهم حقيقة، وهي مفعولة للَّه سبحانه مخلوقة له حقيقة، والذي قام بالرب ﷿ علمه وقدرته ومشيئته وتكوينه، والذي قام بهم هو فعلهم وكسبهم وحركاتهم


(١) انظر: الإنصاف للباقلاني (ص ١٤٨ - ١٤٩).
(٢) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (٨/ ٣٨٩ - ٣٩٠).