للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الشبهة الثالثة: قالوا: "وجدنا أفعالنا واقعة على حسب قصدنا، فوجب أن تكون خلقًا لنا، وفعلًا لنا؛ قالوا: وبيان ذلك؛ أن الواحد منا إذا أراد أن يقوم قام، وإذا أراد أن يقعد قعد، وإذا أراد أن يتحرك تحرك، وإذا أراد أن يسكن سكن، وغير ذلك. فإذا حصلت أفعاله على حسب قصده ومقتضى إرادته، دل على أن أفعاله خلق له وفعل له" (١).

وقالوا: "إن العلم بوقوع تصرفنا بحسب دواعينا وقصودنا وغير ذلك من أحوالنا حاصل على وجه لا يمكن دفعه عن النفس، ومعلوم استمرار ذلك، فكل ما نقض هذه الجملة يجب بطلانه" (٢).

وقال القاضي عبد الجبار المعتزلي: "أن هذه التصرفات يجب وقوعها بحسب قصودنا ودواعينا، ويجب انتفاؤها بحسب كراهتنا وصرفنا، مع سلامة الأحوال؛ إما محققًا أو مقدرًا، فلولا أنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا؛ وإلا لما وجب ذلك فيها" (٣).

الرد عليهم: إن هذه الشبهة باطلة، وبيان ذلك من وجوه، منها:

١ - قولكم "إن أفعال العباد تحصل بحسب قصودهم. . " غير صحيح؛ فإنا نرى من يريد شيئًا ويقصده، ولا يحصل له ما يريد ولا ما يقصد، فإنه ربما أراد أن ينطق بصواب فيخطئ، وربما أراد أكلا لقوة وصحة، فيضعف ويمرض؛ وربما ابتاع سلعة ليربح فيخسر، وربما أراد القيام فيعرض له ما يمنعه منه إلى غير ذلك، فبطل ما ذكرتموه، وصح أن فعله خلق لغيره يجري على حسب مشيئة الخالق تعالى، وإنما يظهر كسبه لذلك الفعل بعد تقدم المشيئة والخلق من الخالق (٤).

٢ - أن وقوع الكسب من الخلق على حسب القصد منهم، لا يدل على أنه خلق لهم واختراع، ألا ترى أن مَشيَ الفرس والدابة يحصل على قصد الراكب وإرادته من عدو وتقريب واستطراف ووقوف إلى غير ذلك. ولا يقول عاقل: إن الراكب خلق جري الفرس ولا سرعتها ولا غير ذلك من أفعالها، فبطل أن يكون حصول الفعل على قصد الفاعل يدل على أنه خلقه، وكذلك السفن يحصل سيرها وتوجهها في السير من يمين إلى شان على حسب قصد الملاح، ولا يدل ذلك على أن الملاح خلق سير السفن ولا توجهها، فإن كابروا الحقائق.


(١) انظر: الإنصاف للباقلاني (ص ١٤٧) وتمهيد الأوائل له (ص ٣٠٧).
(٢) انظر: المجموع في المحيط بالتكليف من كلان القاضي عبد الجبار المعتزلي جمع أبي محمد الحسن بن أحمد بن متوية النجراني (ص ٣٥٧).
(٣) انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ص ٣٣٦).
(٤) انظر: الإنصاف للباقلاني (ص ١٤٧).