للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقالوا: نقول إن ذلك خلقه الملاح والفارس، فقد خرجوا عن الدين وسووا بين الخالق والعباد وأن قدرة كل واحد منها تتعلق بمقدورات، وهذا كفر صراح، وإن قالوا: حركات السفن تقع على حسب قصد الملاح وليس بخلق له، قلنا: فكذلك أفعال أحدنا قد تقع ولا نقول: إنها تقع في كل حال على حسب قصده، ولا يدل ذلك على أن خلقها فاخترعها يؤكد هذا أيضًا أن نمو الزرع يحصل على حسب قصد الزارع وقيامه عليه بسقيه وغير ذلك، ولا يقول أحد أن نمو الزرع خلقه الزارع، ولا أنه خلق في الحبة أضعاف عددها، وكذلك ما حصل فيه النمو من الفسيل والتين وغير ذلك، وإن كان حاصلا على حسب إرادة القائم عليه وقصده؛ وكذلك فيما يحصل من الواحد منا إذا أراد اللَّه تعالى حصوله على حسب قصده لا يدل على أنه هو خلقه، بل الخالق له هو اللَّه تعالى (١).

الشبهة الرابعة: وهي أن القول بأن العباد خلقوا أفعالهم فيه نفي الظلم والجَور عن اللَّه تعالى، وذلك من وجهين:

الأول: أنه لا يجوز أن يكون اللَّه خالق الظلم والجور والكذب؛ لأن من فعل الظلم كان ظالمًا، ومن فعل الجور كان جائرًا، ومن فعل الكذب كان كاذبًا، واللَّه تعالى يتنزه عن جميع ذلك، فصح أن هذه الأشياء ليست بفعلٍ له، ولا خلق له (٢).

قال القاضي عبد الجبار المعتزلي: "وأحد ما يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقًا الأفعال العباد؛ هو أن في أفعال العباد ما هو ظلم وجور، فلو كان تعالى خالقًا لها؛ لوجب أن يكون ظالمًا جائرة تعالى اللَّه عن ذلك علوًا كبيرًا" (٣).

الثاني: تعذيب المكلفين على ذنوبهم كيف تستقيم الحكمة فيه على قولكم بأن اللَّه تعالى خلقها فيهم؟! فأين العدل في تعذيبهم على ما هو فاعله وخالقه فيهم؟! (٤).

الرد عليهم:

١ - أما كون الفعل قبيحا من فاعله فلا يقتضي أن يكون قبيحا من خالقه، كما أن كونه أكلًا وشُربًا لفاعله لا يقتضي أن يكون كذلك لخالقه؛ لأن الخالق خلقه في غيره لم يقم بذاته، فالمتصف به من قام به الفعل لا من خلقه


(١) انظر: نفس المصدر للباقلاني (ص ١٤٨) باختصار وتصرف.
(٢) انظر: الإنصاف للباقلاني (ص ١٥٠) وتمهيد الأوائل له (ص ٣٠٧).
(٣) انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ص ٣٤٥).
(٤) انظر: مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم (ص ٢٤١) وشرح الطحاوية لابن أبي العز (٢/ ٦٤٥).