للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في غيره، كما أنه إذا خلق لغيره لونا وريحا وحركة وقدرة وعلما كان ذلك الغير هو المتصف بذلك اللون والريح والحركة والقدرة والعلم، فهو المتحرك بتلك الحركة، والمتلون بذلك اللون، والعالم بذلك العلم، والقادر بتلك القدرة، فكذلك إذا خلق في غيره كلاما أو صلاة أو صياما أو طوافا كان ذلك الغير هو المتكلم بذلك الكلام، وهو المصلي، وهو الصائم، وهو الطائف وكذلك إذا خلق في غيره رائحة خبيثة منتنة كان هو الخبيث المنتن، ولم يكن الرب تعالى موصوفا بما خلقه في غيره، وإذا خلق الإنسان هلوعًا جزوعًا - كما أخبر تعالى بقوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١)[المعارج]، لم يكن هو سبحانه لا هلوعًا ولا جزوعًا ولا منوعًا، كما تزعم القدرية أنه إذا جعل الإنسان ظالما كاذبا كان هو ظالما كاذبا! تعالى عن ذلك.

وهذا يدل على قول جماهير المثبتين للقدر القائلين: بأنه خالق أفعال العباد، فإنهم يقولون: إن اللَّه تعالى خالق العبد وجميع ما يقوم به من إرادته وقدرته وحركاته وغير ذلك (١).

٢ - أن قولهم "إن في أفعال العباد ما هو ظلم وجور فلو كانت خالقًا للَّه لنسبت إليه" غير صحيح؛ لأن كون الباري تعالى خالقًا لا يوجب أن يتصف بما خلق من الظلم والجور والمعصية وغيرها؛ ألا ترى أن الأسود صفة لمن قام به السواد، ولا يكون صفة للَّه تعالى، وإن كان تعالى هو خالق السواد، فكذلك الظلم والجور وغيرها كلها صفات لمن حل به الجور والظلم ولا يوجب ذلك وصف خالقها بها (٢).

٣ - أن اللَّه تعالى خلق أفعال عباده، فإنها من جملة الأشياء، ومن المخلوقات ما هو مضر لبعض الناس، ومن ذلك الأفعال التي هي ظلم من فاعلها وإن لم تكن ظلمًا من خالقها، كما أنه إذا خلق فعل العبد الذي هو صوم لم يكن هو صائمًا، وإذا خلق فعله الذي هو طواف لم يكن هو طائفًا، وإذا خلق فعله الذي هو ركوع وسجود لم يكن هو راكعًا ولا ساجدًا، وإذا خلق جوعه وعطشه لم يكن جائعًا ولا عطشانًا؛ فاللَّه تعالى إذا خلق في محلٍّ صفةً أو فعلًا لم يتصف هو بتلك الصفة ولا ذلك الفعل، إذ لو كان كذلك لاتصف بكل ما خلقه من الأعراض (٣).

٤ - أن اللَّه تعالى خلق الظلم ظلمًا للظالم به، وخلق الجور جورًا للجائر به، وخلق الكذب كذبًا للكاذب به، كما أنه خلق الظلمة ظُلمةً للمظلم بها، وخلق الضوء ضوءً للمستضيء به، فكما أنه تعالى خلق الظلمة لليل،


(١) انظر: منهاج السنة لابن تيمية (٣/ ٢٩٤ - ٢٩٥).
(٢) انظر: الإنصاف للباقلاني (ص ١٤٩) بتصرف.
(٣) انظر: منهاج السنة لابن تيمية (١/ ٤٥٦).