للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والضياء النهار، ولا يوجب ذلك كونه ظلمة ولا ضياء، فكذلك خلق الطاعة طاعةً للطائع بها، والكذب كذبًا للكاذب به، والجور جورًا للجائر به، ولا يوجب ذلك كونه جائرًا ولا ظالمًا ولا كاذبًا، فصح ما قلناه وبطل ما قالوه (١).

٥ - أن الظلم والكذب والجور إنما يكون كذلك إذا خالف الأمر، وهذا كله يصح الوصف به لمن فوقه آمرٌ أمره، وناهٍ نهاه، وهم الخلق، وأما الخالق فليس فوقه آمرٌ ولا ناهٍ، فلا يصح وصفه بشيء من هذا (٢).

٦ - أما قولهم: "تعذيب المكلفين على ذنوبهم كيف تستقيم الحكمة فيه على قولكم بأن اللَّه تعالى خلقها فيهم؟! فأين العدل في تعذيبهم على ما هو فاعله وخالقه فيهم؟! ".

فالرد عليهم هو: "أن ما يُبتلى به العبد من الذنوب الوجودية، وإن كانت خلقًا للَّه تعالى فهي عقوبة له على ذنوب قبلها، فالذنب يكسب الذنب، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها، فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضًا. بقي أن يقال: فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب. يقال: هو عقوبة أيضًا على عدم فعل ما خُلق له وفُطر عليه، فإن اللَّه خلقه لعبادته وحده لا شريك له، وفطره على محبته وتأليهه والإنابة إليه، كما قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم: ٣٠]. فلما لم يفعل ما خُلق له وفُطر عليه من محبة اللَّه وعبوديته عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، فإنه صادف قلبًا خاليًا قابلًا للخير والشر، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: ٢٤]، وقال إبليس لعنه اللَّه: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)[ص]، وقال تعالى: ﴿قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (٤٢)[الحجر] والإخلاص خلوص القلب من تأله من سوى اللَّه وإرادته ومحبته، فخلص للَّه، فلم يتمكن الشيطان من إغوائه، وأما إذا صادفه فارغًا من ذلك تمكن منه بحسب فراغه وخُلُوِّه، فيكون جَعْلُهُ مذنبًا مسيئًا في هذا الحال عقوبةً له على عدم الإخلاص، وهو محض العدل.


(١) انظر: الإنصاف للباقلاني (ص ١٥٠) بتصرف.
(٢) انظر: نفس المصدر للباقلاني (ص ١٥٠) بتصرف.