للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سابعًا: أن زعْمَ الأشاعرةِ بأنهم يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه وبين الخلق: بأن الكسب: عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة، وقولهم أيضًا: الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه، مردود بما يلي:

• أن هذا لا يوجب فرق بين كون العبد كسَبَ، وبين كونه فعل، وأوجد، وأحدث، وصنع، وعمل، ونحو ذلك، فإن فعله وإحداثَه وعَملَه وصُنعَه هو أيضًا مقدور بالقدرة الحادثة، وهو قائم في محل القدرة الحادثة.

• وأيضًا فهذا فرق لا حقيقة له؛ فإن كون المقدور في محل القدرة أو خارجة عن محلها لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه، وهو مبني على أصلين: أن اللَّه لا يقدر على فعل يقوم بنفسه، وأن خلقه للعالم هو نفس العالم، وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على خلاف ذلك، والثاني: أن قدرة العبد لا يكون مقدورها إلا في محل وجودها، ولا يكون شيء من مقدورها خارجا عن محلها.

• إذا فُسر التأثير بمجرد الاقتران فلا فرق بين أن يكون الفارق في المحل أو خارجًا عن المحل.

• من المستقر في فطر الناس: أن من فعل العدل فهو عادل، ومن فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل الكذب فهو كاذب، فإذا لم يكن العبد فاعلًا لكذبه وظلمه وعدله، بل اللَّه فاعل ذلك، لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم، وهذا كما قلتم أنتم: من المستقر في فطر الناس أن من قام به العلم فهو عالم، ومن قامت به القدرة فهو قادر، ومن قامت به الحركة فهو متحرك، ومن قام به التكلم فهو متكلم، ومن قامت به الإرادة فهو مريد، وقلتم: إذا كان الكلام مخلوقًا كان كلامًا للمحل الذي خلقه فيه كسائر الصفات، فهذه القاعدة المطردة فيمن قامت به الصفات نظيرها أيضًا من فعل الأفعال.

• القرآن مملوء بذكر إضافة الأفعال إلى العباد كقوله تعالى: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: ١٧] وقوله: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] وقوله: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ [التوبة: ١٠٥].

وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البقرة: ٢٧٧] وأمثال ذلك.

• أن الشرع والعقل متفقان على أن العبد يُحمد ويُذم على فعَلَه، ويكون حَسَنةً له أو سَيئةً، فلو لم يكن إلا فعل غيره لكان ذلك الغير هو المحمود المذموم عليها (١).

ثامنًا: أن الأشاعرة ضلوا في هذا الباب بسبب اعتقادهم أن الفعل هو المفعول، والخلق هو المخلوق، فلم يفرقوا بين ما يقوم باللَّه تعالى من الأفعال، وما هو منفصل عنه، فجعلوا كل أفعال اللَّه مفعولة له منفصلة


(١) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (٨/ ١١٨ - ١١٩) بتصرف يسير.