للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عنه، فلما اعتقدوا أن أفعال العباد مخلوقة مفعولة للَّه قالوا: فهي فعله، فقيل لهم مع ذلك: أهي فعل العبد؟ فاضطربوا، فمنهم من قال: هي كسبه لا فعله، ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بفرق محقق. ومنهم من قال: بل هي فعل بين فاعلين، ومنهم من قال: بل الرب فعَلَ ذاتَ الفعلِ، والعبدُ فعَلَ صفاته. والتحقيق ما عليه أئمة السنة وجمهور الأمة من الفرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق، فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة للَّه، كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة مفعولة للَّه، وليس ذلك نفس خلقه وفعله بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به، ليست قائمة باللَّه ولا يتصف بها، فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته؛ وإنما يتصف بخلقه وفعله، كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال وهو المتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق للَّه، فهي فعل العبد ومفعولة للرب، لكن هذه الصفات لم يخلقها اللَّه بتوسط قدرة العبد ومشيئته؛ بخلاف أفعاله الاختيارية؛ فإنه خلقها بتوسط خلقه لمشيئة العبد وقدرته كما خلق غير ذلك من المسببات بواسطة أسباب أخر (١).

فقول القائل: "هذا فعل هذا، وفعل هذا" لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل، وتارة يراد به مسمى المصدر، فيقول: فعل هذا أفعله فعلًا، وعملت هذا أعمله عملًا، فإذا أريد بالعمل نفس الفعل الذي هو مسمى المصدر كصلاة الإنسان، وصيامه، ونحو ذلك، فالعمل هنا هو المعمول، وقد اتحدَّ هنا مسمى المصدر والفعل، وإذا أريد بذلك ما يحصل بعملهِ كنساجة الثوب وبناء الدار ونحو ذلك، فالعمل هنا غير المعمول.

قال تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ [سبأ: ١٣] فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن، ومن هذا الباب قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦)[الصافات] أي: واللَّه خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها، والمقصود أن لفظ "الفعل" و"العمل" و"الصُّنع" أنواع، وذلك كلفظ البناء والخياطة والتجارة تقع على نفس مسمى المصدر، وعلى المفعول، وكذلك لفظ "التلاوة" و"القراءة" و"الكلام" و"القول" يقع على نفس مسمى المصدر، وعلى ما يحصل بذلك من نفس القول والكلام، فيراد بالتلاوة والقراءة نفس القرآن المقروء المتلو، كما يراد بها مسمى المصدر.


(١) انظر: نفس المصدر لابن تيمية (٨/ ١١٨ - ١١٩) واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (٢/ ٢٣٨ - ٢٣٩).