للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بالقدماء الخمسة (١)، ثم اختلف هؤلاء في الأصل الذي حدث هذا العالم من السموات في الكواكب والأرض على الوجه الذي الآن عليه، فصاروا لذلك فرقتين: الفرقة الأولى الذين زعموا أن ذلك الأصل والمادة هو الجسم، والفرقة الثانية الذين قالوا ذلك الأصل ليس بجسم ولا جسماني، أما الفرقة الأولى فقد اختلفوا في ذلك الجسم الذي هو الأصل، فزعم تاليس أنه الماء لأنه قابل لكل الصور، وزعم أنه إذا تجمد صار أرضًا، وإذا لطف صار هواءً، ومن صفوة الهواء تكونت النار، ومن الدخان الذي خالط ذلك الهواء تكونت السموات، ويقال: إن أصل ذلك من التوراة لأنه جاء في السِّفر الأول منه أن اللَّه خلق جوهرًا فنظر اليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماءً ثم ارتفع منه بخار كالدخان فخلق منه السموات وظهر على وجه الماء زبدٌ فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال".

وقال: "يقال في القرآن: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت: ١١] أي: قصد السماء ليفعل بها تركيب أجزائها وشكَّلَها بأشكالها الخاصة، وزعم أنكسيمانس (٢) أنه الهواء، وذكر قول من قال أنه النار، ومن قال هو الأرض، ومن قال هو البخار، ومن قال هو الخليط الذي لا نهاية له، وهو أجسام غير متناهية وفيه من كل نوع أجزاء صغيرة متلاقية".

إلى أن قال: "وزعمت الثنوية أن أصل العالم هو النور والظلمة".

قال: "الفرقة الثانية: الذين قالوا: إن الأصل الذي منه حصل العالم ليس بجسم وهو أيضًا فريقان: الفرقة الأولى: الذين قالوا إن الجسم مركب من الصورة والهيولي وفسروا الصورة بالجسمية، والتحيز والهيولي بمحل هذه الصورة على ما عرَّفناك ذلك قبل، ثم أثبتوا حدوث تلك الجسمية وقِدم الهيولي وهو قول الحرنانيين، واختيار محمد بن زكريا الرازي، وزعم ابن زكريا أن هذا مذهب جملة الفلاسفة الذين كانوا قبل المعلم الأول (٣) ".


(١) القدماء الخمسة عندهم هي: واجب الوجود، والنفس، والهيولى، والدهر، والخلاء. انظر: الدرء لابن تيمية (٩/ ٣٤٧).
(٢) أنكسيمانس الملطي من الملطيين المعروف بالحكمة، المذكور بالخير عندهم. قال: إن الباري تعالى أزلي لا أول له ولا آخر. هو مبدأ الأشياء ولا بدء له. هو المدرك من خلقه أنه هو فقط، وأنه لا هوية تشبهه، وكل هوية مبدعة منه، هو الواحد ليس كواحد الأعداد، لأن واحد الأعداد يتكثر، وهو لا يتكثر. وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته في علمه الأول، والصور عنده بلا نهاية. انظر: الملل للشهرستاني (٢/ ١٢٤).
(٣) أرسطاطاليس يُسمى المعلم الأول والفيلسوف المطلق، لأنه رتب علوم الفلاسفة وهذبها. انظر: كشف الظنون للبغدادي (١/ ٥٠٩).