للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

النبي صلّى الله عليه وسلّم أقام في مكة عام الفتح وفي تبوك إقامة طارئة غير مقصودة، وغير معلومة البداية ولا محددة النهاية، وإنما اقتضتها مصالح الجهاد وتأسيس قواعد الإسلام وإزالة آثار الشرك، فهو صلّى الله عليه وسلّم لم ينو مدة معلومة، وعليه فلا يصح في ما ورد في ذلك أن يقال فيه: إنه أقل مدة للقصر أو أقصى مدة للإقامة، بل يقال: كل من أقام مدة غير معلومة فإن إقامته لا تكون قاطعة للسفر.

ويقاس على ذلك كل من قدم إلى بلد لقضاء عمل معين لا يدري متى ينتهي؛ كمن نزل بلداً لتجارة أو مرافعة أو ملازمة غريم أو زيارة أو نزهة أو مراجعة الجهات الحكومية أو الأهلية، ونحو ذلك مما لا يعتبر المسافر معها قاطعاً لسفره.

فالذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه لا توقيت للقصر بشيء من المدة المختلفة التي أقامها الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أسفاره في بعض المواطن، مثل إقامته في مكة وتبوك، فإن ذلك واقع على ما اقتضاه الحال من الحاجة إلى تلك المدة التي أقامها، ولو دعت الحاجة إلى الزيادة عليها لاستمر القصر إلى فراغه، فهي إقامات وقعت اتفاقاً، وما وقع اتفاقاً لا يصح أن يكون حدّاً كما هو معلوم، وهذا ما فهمه عنه بعض أصحابه رضي الله عنهم، فهذا ابن عمر رضي الله عنهما أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، وكان يقول: (إذا أزمعت إقامة أُتم) (١).

فقد بقي ابن عمر هذه المدة يقصر؛ لأنه لم يقصد الإقامة بل كان مكرهاً عليها؛ لأنه حاصره الثلج فمنعه من السفر، ودلَّ قوله ذلك على أن المسافر يقصر ما لم يعزم على الإقامة.

وبهذا يتم الجمع بين ما اختلف من الروايات في مدة إقامته صلّى الله عليه وسلّم، وأن الصواب أن مدة الإقامة غير محددة بأيام معينة، كما تقدم، والله تعالى أعلم.


(١) أخرجه عبد الرزاق (٢/ ٥٣٣)، وسنده ليِّن، ورواه البيهقي (٣/ ١٥٢) من طريق آخر، وقال الحافظ في "الدراية" (١/ ٢١٢): (إسناده صحيح)، وانظر: "الخلاصة" (٢/ ٧٣٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>