للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

والحاجة تقدر بقدرها، وقد جعل الإسلام الثلاث هي مقدار ما أبيح، وهذا له نظائر كالإحداد على القريب، والترخيص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثًا في مكة، وذلك لأن الغالب أن الهجر وموجبه يزول في الثلاث أو يقل.

* الوجه الرابع: حمل العلماء هذا الحديث وما في معناه على الهجر لحظ النفس لاستصلاح أمر دنيوي، قد يكون سببه التقصير في حق الصحبة وآداب المعاشرة، ومن هذا هجر الوالد لولده، والصديق لصديقه ونحو ذلك.

أما الهجر لحق الله تعالى، فهذا من عمل أهل التقوى، وهو غير مؤقت بوقت، وإنما هو معلق بسبب يزول بزواله؛ كهجر العصاة وقرناء السوء الذين تضر صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة. قال ابن مفلح: (يسن هجر من جهر بالمعاصي الفعلية والقولية والاعتقادية) (١).

والمقصود بهذا زجر المهجور وتأديبه وتأديب غيره ممن يفعل فعله، وهو بهذا الاعتبار من جنس الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وهو -أيضًا- من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء على الفساد، وهذا يختلف باختلاف الحال، فإن كان في الهجر صلاح لدين الهاجر والمهجور وجب الهجر، وإن كان لا يتأدب بالهجر بل يزيد الشر أو تكون المفسدة راجحة لم يجز الهجر، بل يكون التألف لبعض الناس أنفع من الهجر، وقد يكون الهجر لآخرين أنفع، ومن أدلة ذلك هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، كما في حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه -. قال ابن عبد البر: (وفي حديث كعب هذا دليل على أنه جائز أن يهجر المرء أخاه إذا بدت منه بدعة أو فاحشة، يرجو أن يكون هجرانه تأديبًا له وزجرًا عنها، والله أعلم) (٢).

* الوجه الخامس: حرم الإسلام الهجر بين المسلم وأخيه لما يترتب عليه من المفاسد والآثار السيئة، ومنها:


(١) "الآداب الشرعية" (١/ ٢٢٩)، "جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (٣٥).
(٢) "التمهيد" (٦/ ١١٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>