للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبين للناس أحكام دينهم، وهو من يكون له أثر في مجتمعه باحترامه وسماع كلمته وقبول نصحه، وإلا لو اعتزل الدعاة والمصلحون لانتشر الفساد وقوي أنصاره، ولَمَا وَجدْتَ للحق ناصرًا ولا لأهله معينًا، يقول محمد بن واسع: (لم يبق من العيش إلا ثلاث: الصلاة في الجماعة، ترزق فضلها، وتُكفى سهوها، وكفاف من معاش ليست لأحد من الناس فيه مِنَّة، ولا لله عليك فيه تبعة، وأخ محسن العشرة، إن زِغْتَ قوَّمك) (١).

وقد بيَّن الإمام الخطابي ضابط العزلة؛ وكأنه لا يراها بصفة دائمة، وإنما قصده الإقلال من المخالطة، وقد ذكر قول الإمام الشافعي لصاحبه: (يا يونس، الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط) (٢)، ثم قال الخطابي: (إن العزلة يجب أن تكون تابعة للحاجة، وجارية مع المصلحة) (٣)، وقال -أيضًا-: (ولسنا نريد -رحمك الله- بهذه العزلة التي نختارها مفارقةَ الناس في الجماعات والجمعات، وتركَ حقوقهم في العبادات، وإفشاء السلام، وردّ التحيات، وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم، ووضائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم، فإنها مستثناة بشرائطها، جارية على سُبُلها، ما لم يحل دونها حائلُ شُغلٍ، ولا يمنع عنها مانع عذر، إنما نريد بالعزلة ترك فضول الصحبة، ونبذ الزيادة منها، وحطَّ العِلاوة التي لا حاجة بك إليها، فإن من جرى في صحبة الناس والاستكثار من معرفتهم على ما يدعو إليه شَغَفُ النفوس، وإلفُ العادات، وترك الاقتصاد فيها، والاقتصار الذي تدعوه الحاجة إليه، كان جديرًا ألا يحمد غِبَّه، وأن يستوخم عاقبته، وكان سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعه، ويأخذ منه فوق قدر حاجته، فإن ذلك لا يُلْبِثُه أن يقع في أمراض مُدنِفَةٍ، وأسقام متلفة، وليس من علم كمن


(١) "روضة العقلاء" ص (٨٦).
(٢) "العزلة" ص (٨).
(٣) "العزلة" ص (٨٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>