للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

صنع الله والنزر القليل من مصنوعات البشر. ولم أك قد عرفت من الحياة سوى الحب ولا من الدنيا سوى حبيبتي وبهذا وهذه قد اكتفيت وأصبت فيها مقنعاً من كل ما عداهما. فلا جرم حين عشقت لدى خروجي من المدرسة إن كان هذا العشق باقياً لا محالة أبد الدهر وإني ممتع به في هذه الحياة وفي الآخرة ولا بدع أن أصبحت فكرة الحب قد نفت عن ساحة خاطري كل ما عداها من الأفكار والخواطر.

وهكذا نعمت بعيشة رخوة كسلي إذ كنت أقضي اليوم مع حبيبتي أذهب بها إلى المروج الخضر أيام الصيف وإلى الغابات والرياض فأستلقي على العشب جانبها وكان منظر الطبيعة لا يزال من أقوى المؤثرات في نفسي. أما في الشتاء فكنت إتباعاً لأميالها أمضي بها إلى حفلات الرقص والغناء. وكذلك انسجم بنا زورق الحياة الذهبي في تيار من اللذة لا يعرف نهاية ولا يقف عند غاية. أما الآن وقد أصبحت لا أفكر في شيء سواها بعد ما بدا لي من خيانتها فقد أصبحت لا أحد لي في الحياة رأياً ولا فكرة.

ولا أعرف صورة تسف بقارئ حالتي النفسانية إذ ذاك أبلغ من تشبيه هذه الحالة بغرفة جمعت أنواعاً من الأثاث من كل جيل وعصر وأصنافاً من الأمتعة من كل أرض وإقليم في هيئة مضطربة وخليط مشوش. إن جيلنا هذا لم يتميز بشكل خاص ولا صورة مميزة. فنحن لم نطبع طابع العصر على مساكننا ولا حدائقنا ولا منتزهاتنا ولا ملاهينا. فإذا سرت في الطرقات صادفك ذوو اللحى المقصوصة على هيئة اللحى التي كانت في عهد هنري الثالث وصادفك أيضاً المحلوقو اللحى وصادفك ذوو الشعور المجعولة على هيئة المنظورة في صور الرسام الكبير روفائيل وآخرون قد جعلت شعورهم على نحو ما كان يرى في عهد يسوع المسيح. وكذلك غرف المترفين قد ملئت بالطرائف والعجائب - بين يونانية وغوطية ومنسوبة إلى عهد الرينيسانس (أحياء الفنون والمعارف) ومعزوة إلى عهد لويز الثالث عشر، كلها مخلوطة لا يتميز بعضها من بعض. وهكذا ترانا قد أحرزنا أشياء القرون المختلفة والأجيال المتنوعة وحزناً من الأمتعة والأدوات ما يتصل بجميع العصور إلا عصرنا - وتلك لعمري حالة لم تقع في أي عصر آخر. فمذهبنا في ذلك مذهب احتيار لا ابتكار نأخذ كل ما وجدنا وأصبنا - هذا لفائدته وهذا لقدمه وهذا لحسنه بل ربما كان لقبحه. فنحن نعيش بين آثار حتى لكأن قد اقتربت الساعة وأزفت الآزفة.