للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها، فأهرقتها (١). ففي الحديث دليل واضح على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر، وهو نص لا يجوز الاعتراض عليه؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - أهل اللسان وقد فهموا أن شرابهم ذلك خمر، بل لم يكن لهم شراب ذلك الوقت في المدينة غيره، ولو كان عندهم تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستفصلوا ويتحققوا التحريم، لما تقرر عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلما بادروا بالإراقة دل على أنهم فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر دون تفريق بين ما اتخذ من العنب أو غيره.

وأما استدلال الحنفية بآية: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} فلا حجة لهم فيها؛ لأنها جاءت إخبارًا عن قضية رؤيا حصل فيها العصر، وقد تكون الخمر في وقتهم تعصر من العنب ولا يعرفون إلا هذا، وجاء في شرعنا المطهر من الأدلة الصحيحة الصريحة ما يثبت أنها تؤخذ من غير العنب، فيكون عليها المعول.

وأما حديث ابن عباس فهو ضعيف كما تقدم، وعلى فرض صحته فلا حجة فيه؛ لأن المراد بالخمر ما كان معروفًا عندهم كما مضى.

والخلاصة أن الخمر من ماء العنب إذا اشتد حقيقة لغوية شرعية بالاتفاق، وأما غيره فيطلق عليه اسم الخمر حقيقة لغوية شرعية على الأصح، كما هو مذهب الجمهور من علماء اللغة والشريعة.

وثمرة الخلاف: أن من شرب من أي مسكر من العنب أو غيره أقيم عليه الحد، سواء سكر منه أم لا، وهذا مذهب الجمهور، وأما عند الحنفية فمن شرب من ماء عصير العنب حُدَّ، سواء سكر منه أم لا؛ لأنه الخمر حقيقة، ومن شرب من غيره فلا يحد إلا إذا سكر، وعلى هذا فالحنفية يفرقون بين الخمر والمسكر.

ولا ريب أن مذهب الجمهور مع قوة أدلته تؤيده قاعدة سد الذرائع، وهي من مقاصد الشريعة، ومذهب الحنفية يفتح باب شرب المسكرات وتعاطيها تحت مسميات جديدة.


(١) رواه البخاري (٥٥٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>