للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

نظرٌ في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخِسَّتها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغُصَص والنَغَص والأنكادِ، وآخِرُ ذلك الزوالُ والانقطاع، مع ما يُعقِبُ من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفكُّ من همٍّ قبل حصولها، وهمٍّ في حال الظَّفرِ بها، وغمٍّ وحزنٍ بعد فواتها. فهذا أحدُ النظرين.

النظرُ الثاني في الآخرة، إقبالها ومجيئها ولا بدَّ، ودوامها وبقائها، وشرفِ ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما هاهنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: {وَالْآخِرَةُ خَيرٌ وَأَبْقَى (١٧)} [الأعلى: ١٧]؛ فهي خيراتٌ كاملة دائمة، وهذه خيالاتٌ ناقصةٌ منقطعةٌ مضمحلة.

فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقلُ إيثارهُ، وزَهِدَ فيما يقتضي الزُّهدَ فيه) (١).

وقد كَثُر في القرآن الإشارة إلى مدح الزهد في الدنيا وذم الرغبة فيها، قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيرٌ وَأَبْقَى (١٧)} [الأعلى: ١٦، ١٧]، وقال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ} [الأنفال: ٦٧]، وقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: ٧٧].

يقول أبو سليمان الداراني: (اختلفوا علينا في الزهد بالعراق، فمنهم من قال: الزهد في ترك لقاء الناس، ومنهم من قال: في ترك الشهوات، ومنهم من قال: في ترك الشبع، وكلامهم قريب بعضه من بعض، قال: وأنا أذهب إلى أن الزهد في ترك ما يشغلك عن الله عزَّ وجلَّ)، قال الحافظ ابن رجب: (وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن، وهو يجمع جميع معاني الزهد وأقسامه وأنواعه) (٢). وقال رجل لمحمد بن واسع: أوصني. قال: أوصيك أن تكون مَلِكًا في الدنيا والآخرة؛ قال: كيف لي بذلك؟ قال: ازهد في الدنيا (٣).


(١) "الفوائد" ص (١٣٦ - ١٣٧).
(٢) "جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (٣١).
(٣) "حلية الأولياء" (٦/ ٣٠٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>