قوله تعالى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي: أعرض عن ولده أن يطيل معهم الخطب، وانفرد بحزنه، وهيَّج عليه ذِكر يوسف وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ قال ابن عباس: يا طول حزني على يوسف. قال ابن قتيبة:
الأسف: أشد الحسرة. قال سعيد بن جبير: لقد أعطيت هذه الأمّة عند المصيبة ما لم يُعْطَ الأنبياء قبلهم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب، إِذ يقول:«يا أسفى على يوسف» . فإن قيل: هذا لفظ الشكوى، فأين الصبر؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه شكا إِلى الله تعالى، لا مِنْهُ.
والثاني: أنه أراد به الدعاء، فالمعنى: يا ربّ ارحم أسفي على يوسف. وذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: نداء يعقوب الأسف في اللفظ من المجاز الذي يُعنى به غير المظهر في اللفظ، وتلخيصه: يا إِلهي ارحم أسفي، أو أنت راءٍ أسفي، وهذا أسفي، فنادى الأسف في اللفظ، والمنادى في المعنى سواه، كما قال:«يا حسرتنا» والمعنى: يا هؤلاء تنبهوا على حسرتنا، قال: والحزن ونفور النفس من المكروه والبلاء لا عيب فيه ولا مأثم إِذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثِّم ولم يشكُ إِلا إِلى ربه، فلما كان قوله:«يا أسفى» شكوى إِلى ربه، كان غير ملوم. وقد روي عن الحسن أن أخاه مات، فجزع الحسن جزعاً شديداً، فعوتب في ذلك، فقال: ما وجدت الله عاب على يعقوب الحزن حيث قال: «يا أسفى على يوسف» . قوله تعالى: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي: انقلبت إِلى حال البياض. وهل ذهب بصره، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه ذهب بصره، قاله مجاهد. والثاني: ضعف بصره لبياضٍ تغشّاه من كثرة البكاء، ذكره الماوردي. وقال مقاتل: لم يُبصر بعينيه ست سنين. قال ابن عباس:
وقوله:«من الحزن» أي: من البكاء، يريد أن عينيه ابيضتا لكثرة بكائه، فلما كان الحزن سبباً للبكاء، سمي البكاء حزناً. وقال ثابت البُناني: دخل جبريل على يوسف، فقال: أيها الملَك الكريم على ربه، هل لك علِم بيعقوب؟ قال: نعم. قال: ما فعل؟ قال: ابيضت عيناه، قال: ما بلغ حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى، قال: فهل له على ذلك من أجر؟ قال: أجر مائة شهيد. وقال الحسن البصري: ما فارق يعقوبَ الحزنُ ثمانين سنة، وما جفَّت عينه، وما أحد يومئذ أكرم على الله منه حين ذهب بصره. قوله تعالى: فَهُوَ كَظِيمٌ الكظيم بمعنى الكاظم، وهو الممسك على حزنه فلا يظهره، قاله ابن قتيبة، وقد شرحنا هذا عند قوله: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «١» .