للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى أنها منسوخة بآية السيف، فكأنهم يشيرون إلى أنها أثبتت الانتصار بعد بَغْي المشركين، فلمّا جاز لنا أن نبدأَهم بالقتال، دَلَّ على أنها منسوخة. وللقائلين بأنها في المسلمين قولان: أحدهما: أنها منسوخة بقوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ «١» فكأنها نبَّهتْ على مدح المنتصِر، ثم أعلمنا أن الصبر والغفران أمدح، فبان وجه النسخ. والثاني: أنها محكَمة، لأن الصبر والغفران فضيلة، والانتصار مباح، فعلى هذا تكون محكمة، وهو الأصح.

فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية- وظاهرُها مدح المنتصِر- وبين آيات الحَثِّ على العفو؟

فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه انتصار المسلمين من الكافرين، وتلك رتبة الجهاد كما ذكرنا عن عطاء.

والثاني: أن المنتصِر لم يَخرج عن فعل أُبيح له، وإن كان العفو أفضل، ومَنْ لم يَخرج من الشرع بفعله، حَسُنَ مدحُه. قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين! صنفٌ يعفو، فبدأ بذكره، وصنفٌ ينتصر.

والثالث: أنه إذا بغي على المؤمن فاسقٌ، فلأنَّ له اجتراءَ الفُسَّاق عليه، وليس للمؤمن أن يُذِلَّ نَفْسه، فينبغي له أن يَكْسِر شوكة العُصاة لتكون العِزَّة لأهل الدِّين. قال إبراهيم النخعي: كانوا يَكرهون للمؤمنين أن يُذِلًّوا أنفُسَهم فيجترئَ عليهم الفُسّاق، فإذا قَدَروا عَفَوْا، وقال القاضي أبو يعلى: هذه الآية محمولة على من تعدَّى وأصرَّ على ذلك، وآيات العفو محمولة على أن يكون الجاني نادماً.

قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها قال مجاهد والسدي: هو جواب القبيح، إذا قال له كلمة إجابة بمثْلها من غير أن يعتديَ. وقال مقاتل: هذا في القصاص في الجراحات والدماء. فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فلم يقتصّ وَأَصْلَحَ العمل فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ يعني من بدأَ بالظُّلم. وإنما سمَّى المجازاةَ سيِّئةً، لما بيَّنَّا عند قوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ «٢» قال الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مُنادٍ: لِيَقُم مَنْ كان أجْرُه على الله، فلا يقوم إلاّ من عفا. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي: بعد ظُلم الظّالم إيَّاه والمصدر هاهنا مضاف إلى المفعول، ونظيره: مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ «٣» وبِسُؤالِ نَعْجَتِكَ «٤» ، فَأُولئِكَ يعني المنتصرين ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي: من طريق إلى لَوْم ولا حَدِّ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي: يبتدئون بالظُّلم وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: يعملون فيها بالمعاصي. قوله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ فلم ينتصرِ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ الصبر والتجاوز لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وقد شرحناه في آل عمران «٥» .

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)

قوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ أي: من أحدٍ يلي هدايته بعد إضلال الله إيّاه. وَتَرَى الظَّالِمِينَ يعني المشركين لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ في الآخرة يسألون الرّجعة إلى الدنيا


(١) الشورى: ٤٣. [.....]
(٢) البقرة: ١٩٤.
(٣) فصلت: ٤٩.
(٤) ص: ٢٤.
(٥) آل عمران: ١٨٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>