للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٤ الى ٩]

قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)

إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)

قوله عزّ وجلّ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وقرأ عاصم: «أُسوة» بضم الألف، وهما لغتان، أي: اقتداءٌ حَسَن به وبمن معه. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم الأنبياء. والثاني: المؤمنون إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ قال الفرّاء: تقول أفلا تَأَسَّيْتَ يا حاطب بإبراهيم وقومه فتبرَّأت من أهلك كما تبرؤوا من قومهم؟!.

قوله عز وجل: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ قال المفسرون: والمعنى: تأسّوا بإبراهيم إلّا في استغفاره لأبيه فلا تأسَّوا به في ذلك، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي: ما أدفع عنك عذاب الله إِن أشركت به، وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا إلى قوله عزّ وجلّ:

الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قال الفراء: قولوا أنتم: ربنا عليك توكّلنا. وقد بيّنّا معنى قوله عزّ وجلّ: لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا في يونس «١» . ثم أعاد الكلام في ذكر الأُسوة فقال عزّ وجلّ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أي: في إبراهيم ومن معه، وذلك أنهم كانوا يبغضون من خالف الله.

قوله عزّ وجلّ: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بدل من قوله عزّ وجلّ: لَكُمْ وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله، ويخشى عقاب الآخرة.

قوله عز وجل: وَمَنْ يَتَوَلَّ أي: يعرض عن الإيمان ويوال الكفار فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن خلقه الْحَمِيدُ إلى أوليائه. فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادَوْا أقرباءهم. فأنزل الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي: من كفار مكة مَوَدَّةً ففعل ذلك، بأن أسلم كثير منهم يوم الفتح، وتزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فانكسر أبو سفيان عن كثير مما كان عليه حتى هداه الله للإسلام وَاللَّهُ قَدِيرٌ على جعل المودّة وَاللَّهُ غَفُورٌ لهم رَحِيمٌ بهم بعد ما أسلموا.

قوله عزّ وجلّ: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال «٢» :


(١) يونس: ٨٥.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ٦٣: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، لأن الله عز وجل عمّ بقوله جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة أو نسب، أو ممن لا قرابة بينه ولا نسب غير محرّم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح.

<<  <  ج: ص:  >  >>