للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمعنى: فاقتُلوهم «١» ، لأن الأغلب في موضع القتل ضربُ العُنق حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي: أكثرتُم فيهم القتل فَشُدُّوا الْوَثاقَ يعني في الأسر وإِنما يكون الأسر بعد المبالغة في القتل. و «الوَثاق» اسم من الإِيثاق تقول: أوثقتُه إِيثاقاً ووَثاقاً، إِذا شددتَ أسره لئلا يُفْلِت فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ قال أبو عبيدة: إِمّا أن تُمنُّوا، وإِمّا أن تفادوا، ومثلُه: سَقْياً، ورَعْياً، وإِنما هو سُقِيتَ ورُعِيتَ. وقال الزجاج: إِمَّا منَنَتُم عليهم بعد أن تأسِروهم مَنّاً، وإِمّا أطلقتُموهم بِفِداء.

[فصل:]

وهذه الآية محكَمة عند عامَّة العلماء. وممَّن ذهب إِلى أنَّ حُكم المَنِّ والفداء باقٍ لم يُنْسَخ ابنُ عمر، ومجاهدٌ، والحسنُ، وابنُ سيرين، وأحمدُ، والشافعيُّ. وذهب قوم إلى نسخ المَنِّ والفداء بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «٢» ، وممن ذهب إلى هذا ابن جريح، والسدي، وأبو حنيفة وقد أشرنا إِلى القولين في براءة.

قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها قال ابن عباس: حتى لا يبقى أحد من المشركين. وقال مجاهد: حتى لا يكون دِينُ إِلاّ دين الإِسلام. وقال سعيد بن جبير: حتى يخرُج المسيح. وقال الفراء:

حتى لا يبقى إلاّ مُسْلِم أو مُسالِم. وفي معنى الكلام قولان:

أحدهما: حتى يضعَ أهلُ الحرب سلاحَهم قال الأعشى:

وَأًَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا: ... رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُوراَ

وأصل «الوِزْرِ» ما حملته، فسمّى السلاح «أوزاراً» لأنه يُحْمل، هذا قول ابن قتيبة.

والثاني: حتى تضعَ حربُكم وقتالكم أوزارَ المشركين وقبائح أعمالهم بأن يُسْلِموا ولا يعبُدوا إِلاَّ الله، ذكره الواحدي.

قوله تعالى: ذلِكَ أي: الأمر ذلك الذي ذَكَرْنا وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ بإهلاكهم أو تعذيبهم بما شاء وَلكِنْ أمركم بالحرب لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ فيُثيب المؤمن ويُكرمه بالشهادة، ويُخزي الكافر بالقتل والعذاب. قوله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا قرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم: «قٌتِلُوا» بضم القاف وكسر التاء والباقون: «قاتَلُوا» بألف. قوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ فيه أربعة أقوال: أحدها:


(١) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ١٣١: اعلموا وفقكم الله أن هذه الآية من أمهات الآيات ومحكماتها، أمر الله سبحانه فيها بالقتال، وبين كيفيته كما في قوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ فإذا تمكّن المسلم من عنق الكافر أجهز عليه، وإذا تمكن من ضرب يده التي يدفع بها عن نفسه ويتناول قتال غيره فعل ذلك به، فإن لم يتمكن إلا ضرب فرسه التي يتوصل بها إلى مراده فيصير حينئذ راجلا مثله أو دونه، والمآل إعلاء كلمة الله تعالى، وذلك لأن الله سبحانه لما أمر بالقتال أولا، وعلم أن ستبلغ إلى الإثخان والغلبة بيّن سبحانه حكم الغلبة بشدّ الوثاق، فيتخير حينئذ المسلمون بين المن والفداء وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إنما لهم القتل والاسترقاق، وهذه الآية عنده منسوخة. والصحيح إحكامها، فإن شروط النسخ معدومة فيها من المعارضة، وتحصيل المتقدم من المتأخر. وقد عضدت السنة ذلك كله، فروى مسلم أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها ناسا من المسلمين، وقد هبط على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أهل مكة قوم، فأخذهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومنّ عليهم. وقال الحسن وعطاء: المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، وليس للإمام أن يقتل الأسير.
(٢) التوبة: ٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>