فإن قيل: ما وجه الاحتجاج على فرعون من هذا؟
فالجواب: أنه قد ثبت وجود خَلْق وهداية، فلا بد من خالقٍ وهادٍ.
قوله تعالى: قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى اختلفوا فيما سأل عنه من حال القرون الأولى على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سأله عن أخبارها وأحاديثها، ولم يكن له بذلك عِلْم، إِذ التوراة إِنما نزلت عليه بعد هلاك فرعون، فقال: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، هذا مذهب مقاتل. وقال غيره: أراد: إِنِّي رسول، وأخبار الأمم علم غيب، فلا علم له بالغيب. والثاني: أن مراده من السؤال عنها: لم عُبدت الأصنامُ، ولِم لم يُعبدِ اللهُ إِن كان الحقُّ ما وصفتَ؟! والثالث: أن مراده: ما لها لا تُبعث ولا تُحاسَب ولا تجازى؟! فقال: عِلْمها عند الله، أي: عِلْم أعمالها. وقيل: الهاء في «عِلْمُها» كناية عن القيامة، لأنه سأله عن بعث الأمم، فأجابه بذلك.
وقوله: فِي كِتابٍ أراد: اللوح المحفوظ. قوله تعالى: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى وقرأ عبد الله بن عمرو، وعاصم الجحدري، وقتادة، وابن محيصن: «لا يُضِلُّ» بضم الياء وكسر الضاد، أي: لا يضيِّعه وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: «لا يُضَل» بضم الياء وفتح الضاد. وفي هذه الآية توكيد للجزاء على الأعمال، والمعنى: لا يخطئ ربي ولا ينسى ما كان من أمرهم حتى يجازيهم بأعمالهم. وقيل: أراد: لم يجعل ذلك في كتاب لأنه يضل وينسى.
قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر:
«مهاداً» . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «مهداً» بغير ألف. والمهاد: الفراش، والمهد: الفرش.
وَسَلَكَ لَكُمْ أي: أدخل لأجْلكم في الأرض طُرُقاً تسلكونها، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني: المطر.
وهذا آخر الإِخبار عن موسى. ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ يعني: بالماء أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى أي: أصنافاً مختلفة في الألوان والطُّعوم، كل صنف منها زوج. و «شتى» لا واحد له من لفظه. كُلُوا أي: مما أخرجنا لكم من الثمار وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ يقال: رعى الماشية، يرعاها: إِذا سرَّحها في المرعى. ومعنى هذا الأمر: التذكير بالنِّعم، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي: لَعِبَراً في اختلاف الألوان والطعوم لِأُولِي النُّهى قال الفراء: لذوي العقول، يقال للرجل: إِنه لذو نُهْيَةٍ: إِذا كان ذا عقل. قال الزجاج: واحد النُّهى: نُهْيَة، يقال: فلان ذو نُهْيَة، أي: ذو عقل ينتهي به عن المقابح، ويدخل به في المحاسن قال: وقال بعض أهل اللغة: ذو النُّهية: الذي يُنتهى ِإِلى رأيه وعقله، وهذا حسن أيضاً. قوله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ يعني: الأرض المذكورة في قوله: «جعل لكم الأرض مهاداً» .
والإِشارة بقوله: «خلقناكم» إِلى آدم، والبشر كلُّهم منه. وَفِيها نُعِيدُكُمْ بعد الموت وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أي: مَرَّة أُخْرى بعد البعث، يعني: كما أخرجناكم منها أولاً عند خلق آدم من الأرض.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٦ الى ٦٤]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠)
قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤)