للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«فَتَنوا» بفتح الفاء والتاء، على معنى: من بعد ما فتنوا الناس عن دين الله، يشير إِلى من أسلم من المشركين. وقال أبو علي: من بعد ما فَتنوا أنفسهم باظهار ما أظهروا للتقية، لأن الرخصة لم تكن نزلت بعدُ. قوله تعالى: ثُمَّ جاهَدُوا أي: قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وَصَبَرُوا على الدين والجهاد.

إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها في المكنيِّ عنها أربعة أقوال: أحدها: الفتنة، وهو مذهب مقاتل. والثاني:

الفَعلة التي فعلوها، قاله الزجاج. والثالث: المجاهدة، والمهاجرة، والصبر. والرابع: المهاجرة.

ذكرهما واللَّذَين قبلهما ابن الأنباري.

قوله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي قال الزجاج: هو منصوب على أحد شيئين، إِما على معنى: إِن ربك لغفور يوم تأتي، وإِما على معنى: اذكر يوم تأتي. ومعنى تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها أي: عنها. والمراد: أن كل إِنسان يجادل عن نفسه. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لكعب الأحبار: يا كعب خوِّفنا، فقال: إِن لجهنم زفرةً ما يبقى ملَك مقرَّب ولا نبيّ مرسل إِلاَّ وقع جاثياً على ركبتيه، حتى إِن إِبراهيم خليل الرحمن ليدلي بالخلة فيقول: يا رب أنا خليلك إِبراهيم، لا أسألك إِلاَّ نفسي، وإِن تصديق ذلك في كتاب الله: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها. وقد شرحنا معنى «الجدال» في هود «١» .

[[سورة النحل (١٦) : آية ١١٢]]

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢)

قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً في هذه القرية قولان:

أحدهما: أنها مكة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والجمهور، وهو الصحيح.

والثاني: أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز، فبعث الله عليهم الجوع حتى كانوا يأكلون ما يقاعدون، قاله الحسن. فأما ما يروى عن حفصة أنها قالت: هي المدينة، فذلك على سبيل التمثيل، لا على وجه التفسير، وبيانه: ما روى سليم بن عتر «٢» ، قال: صدرنا من الحج مع حفصة، وعثمان محصور بالمدينة، فرأت راكبين فسألتهما عنه، فقالا: قُتِل، فقالت: والذي نفسي بيده إنها للقرية، تعني المدينة التي قال الله تعالى في كتابه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً، تعني حفصة: أنها كانت على قانون الاستقامة في أيّام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ عند قتل عثمان رضي الله عنه. ومعنى كانَتْ آمِنَةً أي: ذات أمْنٍ يأمن فيها أهلها أن يُغَارَ عليهم، مُطْمَئِنَّةً أي: ساكنة بأهلها لا يحتاجون إِلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق. وقد شرحنا معنى الرغد في البقرة «٣» .

وقوله تعالى: مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي: يجلَب إِليها من كل بلد وذلك كلُّه بدعوة إِبراهيم عليه السلام، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ بتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي واحد الأنعم قولان: أحدهما: أن واحدها «نُعْمٌ» قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثاني: «نِعْمة» قاله الزجاج: قال ابن قتيبة: ليس قول من


(١) سورة هود: ٣٢. [.....]
(٢) في المطبوع «عنز» والمثبت عن «التاريخ الكبير» ٢/ ٢/ ١٢٥ للبخاري.
(٣) سورة البقرة: ٣٥- ٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>