قوله عزّ وجلّ: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ قد تقدّم بيانه، وجواب القسم إِنَّا أَنْزَلْناهُ والهاء كناية عن الكتاب، وهو القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وفيها قولان «١» . أحدهما: أنها ليلة القدر، وهو قول الأكثرين. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: أُنزلَ القرآنُ من عند الرحمن ليلة القدر جُملةً واحدةً، فوُضع في السماء الدنيا، ثم أُنزِلَ نجوماً. وقال مقاتل: نزل القرآن كلّه في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إِلى السماء الدنيا. والثاني: أنها ليلة النصف من شعبان، قاله عكرمة. قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي: مخوِّفين عقابنا. فِيها أي: في تلك الليلة يُفْرَقُ كُلُّ أي: يُفْصَل. وقرأ أبو المتوكّل، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ:«يْفِرقُ» بفتح الياء وكسر الراء «كُلَّ» بنصب اللام أَمْرٍ حَكِيمٍ أي: مُحْكَم. قال ابن عباس: يُكتَب من أُمِّ الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشرِّ والأرزاق والآجال، حتى الحاج، وإِنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى. وعلى ما روي عن عكرمة أن ذلك في ليلة النصف من شعبان، والرواية عنه بذلك مضطربة قد خولف الراوي لها، فروي عن عكرمة أنه قال: في ليلة القَدْر، وعلى هذا المفسرون.
قوله تعالى: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا قال الأخفش: «أمراً» و «رحمةً» منصوبان على الحال المعنى: إِنّا أنزِلْناه آمرِين أمراً وراحمين رحمة. قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوباً ب «يُفْرَقُ» بمنزلة يُفْرَقُ فَرْقاً، لأن «أمراً» بمعنى «فَرْقاً» . قال الفراء: ويجوز أن تُنصب الرحمة بوقوع «مرسلين» عليها، فتكون الرحمة هي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال مقاتل:«مرسِلِين» بمعنى منزِلِين هذا القرآن، أنزلناه رحمة لمن آمن به. وقال
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٢٢٣: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك ليلة القدر. وهذا اختيار ابن كثير والقرطبي.