للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل، فأبى أن يبيعها الا بملء مسكها ذهباً، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وعبيدة، ووهب، وابن زيد، والكلبي، ومقاتل في مقدار الثمن.

فأما السبب الذي لأجله غلا ثمنها، فيحتمل وجهين: أحدهما: أنهم شددوا فشدد الله عليهم.

والثاني: لإكرام الله عزّ وجلّ صاحبها، فإنه كان براً بوالديه. فذكر بعض المفسرين أنه كان شاب من بني اسرائيل براً بأبيه، فجاء رجل يطلب سلعة هي عنده، فانطلق ليبيعه إياها، فاذا مفاتيح حانوته مع أبيه، وأبوه نائم، فلم يوقظه ورد المشتري، فأضعف له المشتري الثمن، فرجع إلى أبيه فوجده نائماً، فعاد إلى المشتري فرده، فأضعف له الثمن، فلم يزل ذلك دأبهما حتى ذهب المشتري، فأثابه الله على بره بأبيه أن نتجت له بقرة من بقرة تلك البقرة. وروي عن وهب بن منبه في حديث طويل: أن فتى كان براً بوالديه، وكان يحتطب على ظهره، فاذا باعه تصدق بثلثه، وأعطى أمه ثلثه، وأبقى لنفسه ثلثه، فقالت له أمه يوماً: إني ورثت من أبيك بقرة، فتركتها في البقر على اسم الله، فاذا أتيت البقر، فادعها باسم إله إبراهيم، فذهب فصاح بها، فأقبلت، فأنطقها الله، فقالت: اركبني يا فتى، فقال: لم تأمرني أمي بهذا.

فقالت: أيها البر بأمه، لو ركبتني لم تقدر عليّ، فانطلق، فلو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله لانقلع ببرّك لأمك. فلما جاء بها قالت أمه: بعها بثلاثة دنانير على رضىً مني، فبعث الله ملكاً فقال: بكم هذه؟ قال: بثلاثة دنانير على رضىً من أمي. قال: لك ستة ولا تستأمرها، فأبى، ورجع إلى أمه فأخبرها، فقالت: بعها بستة على رضىً مني، فجاء الملك فقال: خذ اثني عشر ولا تستأمرها، فأبى، وعاد إِلى أمه فأخبرها، فقالت: يا بني، ذاك مَلَك، فقل له: بكم تأمرني أن أبيعها؟ فجاء إليه فقال له ذلك، فقال: يا فتى يشتري بقرتك هذه موسى بن عمران لقتيل يقتل في بني إسرائيل «١» .

[[سورة البقرة (٢) : آية ٧٢]]

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢)

قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً هذه الآية مؤخرة في التلاوة، مقدمة في المعنى، لأن السبب في الأمر بذبح البقرة قتل النفس، فتقدير الكلام: وإِذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها، فسألتم موسى فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. ونظيرها قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً «٢» ، أراد: أنزل الكتاب قيماً، ولم يجعل له عوجاً، فأخر المقدم وقدم المؤخر، لأنه من عادة العرب، قال الفرزدق:

إِن الفرزدق صخرة ملمومة ... طالت فليس تنالها الأوعالا

أراد: طالت الأوعالَ. وقال جرير:

طاف الخيال وأين منك لماما ... فارجع لزورك بالسلام سلاماً

أراد: طاف الخيال لماماً، وأين هو منك؟ وقال الآخر:

خير من القوم العصاة أَميرهم ... - يا قوم فاستحيوا- النساء الجلَّس

أراد: خير من القوم العصاة النساء، فاستحيوا من هذا.

ومعنى قوله تعالى: فَادَّارَأْتُمْ: اختلفتم، قاله ابن عباس ومجاهد. وقال الزّجّاج: ادّارأتم،


(١) هذا الأثر مصدره كتب الأقدمين، فقد روى وهب الكثير عن أهل الكتاب.
(٢) الكهف: ١- ٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>