للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكيف تكون بِدْعاً منهم؟! فان قيل: لم كسرت «إنّهم» ها هنا، وفتحت في براءة في قوله تعالى: أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ «١» فقد بيّنّا عِلَّة فتح تلك فأما كسر هذه فذكر ابن الأنباري فيه وجهين:

أحدهما: أن تكون فيها واو للحال مضمرة، فكسرت بعدها «إِنّ» للاستئناف، فيكون التقدير: إلّا وإنّهم ليأكلون الطعام، فأضمرت الواو ها هنا كما أضمرت في قوله تعالى: أَوْ هُمْ قائِلُونَ «٢» ، والتأويل، أو وهم قائلون. والثاني: أن تكون كُسرت لإِضمار «مَنْ» قبلها، فيكون التقدير: وما أرسلنا قبلكَ من المرسَلين إِلا مَنْ إِنهم ليأكلون، قال الشاعر:

فظلُّوا ومنهم دَمْعُه سَابق له ... وآخَرُ يَثني دَمْعَة العَيْنِ بالمَهْلِ «٣»

أراد: مَن دمعُه.

قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً الفتنة: الابتلاء والاختبار. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه افتتان الفقير بالغنيّ، يقول: لو شاء لجعلني غنيّاً، والأعمى بالبصير، والسقيم بالصحيح، قاله الحسن. والثاني: ابتلاء الشريف بالوضيع، والعربي بالمولى، فاذا أراد الشريف أن يُسْلِم فرأى الوضيع قد سبقه بالإِسلام أنف فأقام على كفره، قاله ابن السائب. والثالث: أن المستهزئين من قريش كانوا إِذا رأوا فقراء المؤمنين، قالوا: انظروا إِلى أتباع محمد من موالينا ورُذالتنا، قاله مقاتل.

فعلى الأول: يكون الخطاب بقوله: أَتَصْبِرُونَ لأهل البلاء. وعلى الثاني: للرؤساء، فيكون المعنى:

أتصبرون على سبق الموالي والأتباع. وعلى الثالث: للفقراء والمعنى: أتصبرون على أذى الكفار واستهزائهم، فالمعنى: قد علمتم ما وُعِد الصابرون، وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً بمن يصبر وبمن يجزع.

[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢١ الى ٢٤]

وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)

قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي: لا يخافون البعث لَوْلا أي: هلاّ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فكانوا رُسلاً إِلينا وأخبرونا بصدقك، أَوْ نَرى رَبَّنا فيخبرنا أنَّكَ رسوله، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي: تكبَّروا حين سألوا هذه الآيات وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً قال الزجاج: العُتُوُّ في اللغة: مجاوزة القَدْرِ في الظُّلم. قوله تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ فيه قولان: أحدهما: عند الموت. والثاني: يوم القيامة. قال الزجاج: وانتصب اليوم على معنى: لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة، و «يومَئِذٍ» مؤكِّد ل «يومَ يَرَوْنَ الملائكةَ» والمعنى أنهم يُمنَعون البُشرى في ذلك اليوم ويجوز أن يكون «يومَ» منصوباً على معنى: اذكر يوم يرون الملائكة، ثم أخبر فقال: لا بُشْرى والمجرمون ها هنا: الكفار.

قوله تعالى: وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وقرأ قتادة، والضّحّاك، ومعاذ القارئ: «حُجْراً» بضم الحاء.

قال الزجاج: وأصل الحجْر في اللغة: ما حجرتَ عليه، أي: منعتَ من أن يوصل إليه، ومنه حجر


(١) التوبة: ٥٤.
(٢) الأعراف: ٤.
(٣) البيت لذي الرمّة كما في ديوانه ص ٥٧٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>